لا توجد سينما ولا توجد أماكن عامة للترفيه والتليفزيون الحكومي يتصف بالكآبة, ثم بعد ذلك يقطعون عنا خدمة البلاك بيري ليجعلوا حياتنا اكثر إظلاما, انه الظلم بعينه.. هكذا جاء تعليق أحد مواطني دولة خليجية كبيرة تعقيبا علي قرار منع خدمة الاتصال الفوري, الماسينجر, التي تتيح للمتعاملين بها حرية كبيرة في التواصل مع آخرين داخل الحدود أو خارجه بدون رقابة أو متابعة من السلطات المسئولة. وفي تعليق آخر قال صاحبه ألم يكن من الأجدر أن تدرس الحكومة أولا طبيعة هذه الخدمات قبل أن توفرها للمواطنين الذين تعودوا عليها وعلي فوائدها الكبيرة قبل أن تقرر وقفها؟. هذان التعليقان يعكسان خيبة أمل قطاع الشباب في المجتمعين السعودي والاماراتي نتيجة المواقف الجديدة بوقف خدمات أحد أكثر أجهزة الهواتف المحمولة ذكاء وقدرة علي تقديم خدمات عديدة بيسر وسهولة, ويعكسان أيضا تلك المعضلة الدائمة التي تواجهها الحكومات المختلفة, وهي قدر الحرية الآمن الذي يسمح به للأفراد في مواجهة ما يعرف بأمن النظام العام وأمن المجتمع. إنها قصة معروفة منذ أن تبلورت الدولة القومية ومعها ما يعرف بمفاهيم السيادة التي تعطي للدولة الحق في السيطرة علي كل شئ يجري علي أراضيها, متذرعة بالأمن تارة وبمسئولية الحفاظ علي مقدرات البلد تارة أخري, وبدرء التيارات المعادية الوافدة من الخارج تارة ثالثة وهكذا. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل ما زالت مثل هذه المقولات التي سادت لفترة طويلة صالحة بالفعل في زمننا المعاصر؟, حيث تقلصت سيادة الدولة برضائها أحيانا وغصبا عنها أحيانا أخري, وحيث أصبحت الدولة مجرد لاعب من بين لاعبين كثر موجودين في فضاءات العلاقات الدولية كالمنظمات الدولية والإقليمية والشركات الكبري العملاقة ومؤسسات المجتمع المدني وحركات حقوق الإنسان ذات الطابع العالمي التي تتيح لنفسها الحق في تقويم ما يجري في جميع البلدان من منظور حقوق الإنسان, ناهيك عن التطورات الهائلة في عالم التسلح والاتصالات والأقمار الصناعية التي تكشف أسرار الدول دون استثناء رغما عنها. ولربما يقول قائل إن عدم إدراك التغيرات الكبري التي لحقت بالعالم وتفاعلاته وأطرافه المختلفة هو الذي يقود أحيانا إلي معارك تبدو خاسرة منذ اللحظة الأولي, أما الوعي بحقيقة التغيرات الجارية فيؤدي مباشرة إلي قدر اكبر من الحكمة في إدارة الأزمات وحل الإشكاليات التي تفرض نفسها بين وقت وآخر. وإذا كان الأفراد يسعون إلي مساحة حرية أكبر في تصرفاتهم الشخصية بعيدا عن أي رقابة أو متابعة, فإن الحكومات تسعي دائما لكي تكون قادرة علي الوصول إلي المعلومات التي تراها ضرورية من أجل حماية المجتمع والسيطرة علي ما فيه من اتجاهات وتحركات ولو بصورة غير مباشرة ودون علم الناس أنفسهم. ويقال في هذا الصدد إن دولة خليجية حاولت فرض برنامج علي مستخدمي جهاز بلاك بيري يسمح لها بمعرفة المحادثات بين الافراد, غير أن الشركة المصنعة للجهاز كشفت الأمر وأفسدت المحاولة. هذا الصراع الذي نشهده الآن هو أحد تجليات ثورة الاتصالات, والتي بدورها جسدت جوهر العولمة من حيث زيادة الترابط والتشابك بين المجتمعات والأفراد, وزيادة مساحة التفاعل الإنساني دون قيود أو حدود. وهي ثورة لا يمكن لأحد إنكار فوائدها الكثيرة علي حالة النشاط الاقتصادي العالمي ككل, أو علي عملية تبادل المعلومات وتدفق المعرفة بوجه عام, والتي باتت الهواتف الذكية وأجهزة الحاسب الآلي وشبكة الانترنت تلعب فيها دورا أساسيا ومحوريا ولا يمكن تعويضه. وكأي أمر جديد لا يسلم تماما ممن يمكن أن يسيئوا استخدامه وتحويله عن أغراضه الأساسية. فمن المؤكد أن الشركات الصانعة للهواتف الذكية والتي تتيح للمستخدمين أكبر درجة من حرية التواصل وأمن المعلومات الشخصية والحفاظ علي الخصوصية, لم تفعل ذلك من أجل حفنة أشرار قد يستخدمون هذه التقنيات المؤمنة في أعمال منافية للقانون أو أخري إرهابية. فالهدف الرئيسي هو مصالح الجمهور الطبيعي العريض, وليس بالقطع توفير فرص للأعمال الإرهابية. ولذلك تبدو المفارقة هنا في أن حرية الجمهور العريض المستخدم للهواتف الذكية والإنترنت أصبحت معرضة للتضييق بسبب سوء الاستخدام لحفنة من الأشرار. لقد بررت سلطات الاتصالات في كل من السعودية والإمارات قرار وقف الخدمة كليا كما في الامارات أو جزئيا كما في السعودية بأن الخدمات المقدمة من شركة بلاك بيري تتعارض مع القواعد التنظيمية المعمول بها, وفي شرح أكبر للمبررات تبين أن هناك مطلبا محددا وهو أن تتاح الفرصة كاملة للسلطات السعودية والاماراتية في تتبع والتعرف علي المحادثات والمعلومات التي يتبادلها المستخدمون المحليون لهذه الأجهزة الحديثة. ومن قبل حذرت الحكومتان الهندية والاندونيسية من سوء استخدام هذا النوع من الهواتف الذكية, ولربما استخدم بالفعل في عمل إرهابي أو أكثر كما تقول بذلك السلطات الهندية. ويبدو الحل المطلوب الآن هو ان تسمح الشركة صانعة الجهاز الذكي بفك الشفرات للجهات السعودية والاماراتية مقابل استمرار الخدمة محليا, وهو ما نفته الشركة المصنعة معتبرة أن هذا الامر نوع من الإخلال بالعقد الضمني بينها وبين مستخدم هواتفها المصممة بحيث تحمي بيانات المستخدمين وتأمينها تأمينا تاما, وأنها لن تسمح به. أحد الذين دافعوا عن وقف خدمة الجهاز الذكي ربط مباشرة بين محاربة الارهاب ومخططاته والتضييق عليه باعتبارها غاية لا يمكن التنازل عنها أيا كانت المبررات, وأن هذا الجهاز إن تحول إلي ثغرة ينفذ من خلالها الارهابيون حسب وصفه للعبث بأمن البلاد, فلا خيار سوي المنع ومن يقول غير ذلك فهو يفرط بأمن البلاد. لكن هذا الموقف الاكثر تشددا لا يبدو هو الحاكم أو لنقل النهائي في مسألة منع الخدمة أو السماح باستمرارها. فعنصر الأمن هنا وإن كان أساسيا, فهناك عناصر اخري لا يمكن التهوين منها, أولها عنصر المصلحة الاقتصادية, وهو عنصر ضاغط علي كل الأطراف تقريبا. سواء الشركة المصنعة او سلطات الاتصال الرسمية أو مستخدمو الجهاز أنفسهم أو الشركات المحلية التي تقدم الخدمة في البلدان المختلفة بالتنسيق مع الشركة المصنعة للجهاز. والاحصاءات تكشف بدورها عن زيادة مضطردة في عملية بيع هذه الهواتف الذكية, فتصل إلي700 ألف مستخدم في السعودية و500 ألف في الإمارات العربية وأرقام أخري تتراوح بين70 ألفا و120 ألف مستخدم في مصر ولبنان والبحرين والجزائر, وليس من الحكمة أن تضحي الشركة الأم أو الشركات المحلية بهذا الكم الكبير من المستخدمين, ولذا فإن البحث عن نقطة وسط أو حل يرضي الأطراف كلها كما تطالب بذلك واشنطن هو الأمر المتوقع والأرجح. حل يرضي الحكومات بأن تقدم لها ولو بشروط معينة إمكانية الاطلاع علي المعلومات الخاصة بمواطنيها مستخدمي الجهاز, كما هو معمول بالفعل بين الشركة الكندية الأم صانعة الجهاز والحكومة الأمريكية مثلا, ويرضي الغالبية العظمي من المستخدمين باستمرار هذه الخدمات الذكية, ويرضي الشركات المحلية بالاتساع في أسواقها. أما العنصر الثاني الحاكم فهو عنصر التكيف مع متطلبات الثورة الاتصالية العالمية والتي أصبح من العسير علي أي بلد تذوق بالفعل العوائد المختلفة للانخراط في ثنايا هذه الثورة أن يعمد علي الانقضاض عليها أو يخرج نفسه طائعا منها أو يقيد بعض فوائدها. والمسألة هنا ببساطة سوف تصور باعتبار أن هذا البلد لم يعد متوافقا مع متطلبات التطور التقني في عالم الاتصالات ولا متطلبات العصر العولمي. وبالتالي فهو ليس جديرا بأن يكون فاعلا فيه. وبالنظر إلي حالتي السعودية والإمارات العربية تحديدا, يبدو مستحيلا علي أيهما أن ينقلب علي متطلبات العصر العولمي, بل التكيف مع مقتضياته وفق صيغة مرنة تحقق مقولة الكسب المشترك. فكثير مما حققته الإمارات تحديدا هو نتاج مباشر للانخراط الشامل في ثورة العولمة والاتصالات, ومنذ فترة مبكرة جدا, ويبدو مستحيلا التراجع عن هذا النمط. أما العنصر الثالث, فهو أن العالم الآن لم تعد تنفع فيه مقولات السيادة الجامدة, بل مقولات السيادة المرنة, والتي تتضمن في عمقها بعضا من التنازلات التي تتخذها الدولة عن طيب خاطر في مجالات عديدة تحت مظلة الشراكة أو المنفعة المشتركة أو استراتيجيات التكامل مع الغير. ويقابل ذلك أن تقبل الشركات العولمية, التي تقدم خدمات ومنتجات ذات طبيعة خاصة للغاية, العمل بالتنسيق المسبق مع الحكومات المحلية. فإذا كانت الدولة ما زالت موجودة ولا يمكن التنازل عنها كمؤسسة أم تدير شئون المجتمع وتحمي مصالحه, فإن الشركات العولمية, وإن كان لا يمكن تجاهلها وتجاهل ما تفعله من اجل البشرية ككل, فليست بقادرة علي تجاهل الدولة أيا كان ضعفها, فما بال دول تسهم في زيادة أرباح هذه الشركات عبر إتاحة الأسواق والمستهلكين لمنتجاتها المختلفة. إننا, أمام حالة نموذجية تتجسد فيها التشابكات الفكرية والعملية والسياسية والاقتصادية والأمنية بين أطراف العولمة, وتفرض علي الجميع قدرا متبادلا من المرونة واستنباط الحلول النافعة للجميع.