استعدت خلال متابعة أدائنا الإعلامي للأحداث الأخيرة علي حدودنا, حقيقة ثابتة يؤكدها تراث مدارس العلاج النفسي, فضلا عن علم النفس السياسي, وقبل ذلك كله دروس التاريخ: لم يعرف التاريخ البشري من استطاع أن يقنع الجميع برؤيته, مهما كانت مشروعية ونبل مقاصده وأهدافه. وأن قدرة الفرد والجماعة علي حد سواء علي الحركة الرشيدة, تتوقف علي القدرة علي دفع ثمن الاختيارات, وأن الأمر في النهاية يحسمه اتفاق وتعارض المصالح. ولم ألبث أن تذكرت رجلا فاضلا من معارفي كان مسئولا, بحكم وظيفته, عن عدد من العاملين في إحدي المؤسسات, وكان يسعي جاهدا لكسب رضا الجميع, فضلا عن رضا رؤسائه أيضا, وسرعان ما اصطدم بحقيقة أن المصالح تتعارض, وأنه إذا ما قرر أمرا فإنه بالضرورة سوف يحظي برضا البعض, لكنه سوف يغضب البعض الآخر, ونظرا لأنه لم يكن بقادر, بحكم تكوينه النفسي, أن يتحمل مواجهة غضب البعض, فقد آثر اختيار طريق بدا له مأمونا: أن يوحي لكل معترض, ولكن علي انفراد, أنه في صفه, ولا بأس من أن يصدر قرارا جديدا لإرضائه حتي لو كان متناقضا مع قرار سبق له إصداره, ثم يكرر ذلك كلما واجه غضبا من محتج جديد, فإذا ما اضطر للدفاع علنا عن مجمل قراراته, لم تصدر عنه سوي جمل ناقصة, وتبريرات متهاوية, وغمغمات مغلفة بالخجل لا تكاد تفصح عن شيء, وكان طبيعيا, والأمر كذلك أن يجترئ عليه المرءوسون والرؤساء. إن سعي المرء لكسب الصداقات أمر واجب, وقد تنجح سياسة محاولة كسب الجميع إذا كنا بصدد جماعة صغيرة كالأسرة مثلا أو شلة من الأصدقاء, حيث يمكن توحيدها علي هدف واحد مقابل قبول أفرادها بقدر معقول من التأجيل أو حتي التنازل عن بعض أهدافهم الشخصية العاجلة, ولكن لأمر ليس كذلك علي الإطلاق إذا ما كنا نتحدث عن الأهداف السياسية أو الاقتصادية لمؤسسة أو لحزب أو لدولة, حيث تحل التحالفات والمحاور محل الإجماع, وتحل المصالح العملية محل الصداقات الرومانسية, برغم ولع رجال السياسة كثيرا بالحديث عن علاقات الصداقة التاريخية بين الدول والشعوب. يستحيل علي مؤسسة اقتصادية مثلا أن تحظي بدعم منافسيها, كما يستحيل علي حزب أن يحظي بتأييد الجميع, فذلك أمر يتنافي مع طبيعة الأمور, لذلك فإن الحصول علي ما يقرب من100% من أصوات الناخبين في أي انتخابات يعد أمرا مثيرا للسخرية, ويستحيل كذلك علي دولة أن تحظي بتأييد دول العالم قاطبة, إلا في حالة واحدة تكاد تكون مستحيلة في عالم اليوم: أن تتبني سياسة صاحبنا الذي أشرنا إليه في مستهل المقال بألا تحدد أهدافها الحقيقية, أن تلونها حسب مقتضي الحال, وقد كانت مثل هذه الاستراتيجية دوما قصيرة النظر, محدودة الدوام, وأصبحت اليوم في حكم الوهم المستحيل في عصر الانفجار الإعلامي, حيث لم يعد ممكنا عزل الخطاب الداخلي عن الخطاب الخارجي, أو عزل الخطاب الموجه لدولة معينة عن ذلك الموجه لدولة أخري, ولم يعد هناك مجال كبير لهمسات في غرف مغلقة, أو لأحاديث تحمل مضمونا يتغير بتغير اللغة, وبمكان محطة البث, وبهوية المخاطب, ويصبح طبيعيا لمن يسعي لكسب الجميع بذلك الأسلوب أن ينتابه الفزع إذا ما أجبر علي الإعلان عن قراراته, والإفصاح عن أهدافه وتحالفاته بوضوح حتي لو كانت مشروعة من وجهة نظره, ويصبح دفاعه عنها مشوبا بالخجل والتلعثم ومحاولة التلاعب بالألفاظ, متعرضا بذلك لتهجم الأعداء الذين يبتزونه ويزايدون عليه لكشف المزيد مما يخفيه ويسعي لستره, وهجوم الحلفاء الذين يرون أنه يخذلهم ويتخلي عنهم, وفي النهاية يكون مهددا بخسران الجميع. إن أهداف وسياسات الدول في هذا العالم تتباين وتتعارض وفقا للمصالح, ومن ثم فعلي كل دولة أن تحدد أهدافها أولا, وأن تحسب جيدا قدراتها الواقعية, وأن تدرس تفاصيل العالم الواقعي حولها, ثم تقيم تحالفاتها مع من لا تتعارض مصالحهم مع مصالحها, وأن تدفع الثمن الحتمي لتلك التحالفات متمثلا في تحمل غضب الآخرين وعدائهم, إلي أن تتغير خريطة المصالح فتتغير تبعا لها طبيعة التحالفات. ولا يعني ذلك بحال أن تكون تلك التحالفات عدوانية متقاتلة بالضرورة, بل علي العكس, فإن إعلان تحالفات واضحة الحدود والأهداف, والدفاع عنها دائما بوضوح ودون خجل أو تردد أو تلعثم, يكون مدعاة لحوار واضح بين الحلفاء, ولحوار واضح أيضا, برغم سخونته, مع التحالفات الأخري ذات الأهداف المعارضة أو حتي المناقضة, في حين أن الغموض يوجد حافزا لدي الجميع للضغط بكل الوسائل بهدف حسم هذا الغموض في مصلحة طرف أو آخر. خلاصة القول إنه من المستحيل أن نتبني سياسة نراها ضرورية للحفاظ علي أمننا الوطني, بدءا من الالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل, وإقامة حاجز يقطع الأنفاق تحت حدودنا مع قطاع غزة, وتأييد الحق الفلسطيني في عودة اللاجئين وإقامة دولة عاصمتها القدس علي حدود67, ونتوقع أن تلقي تلك السياسة تأييدا من الجميع, بل لا سبيل للهروب من مواجهة غضب ورفض وتهجم ومزايدات من يتبنون أهدافا وسياسات مناقضة.. وهم كثر. [email protected] المزيد من مقالات د. قدري حفني