العين تختبئ تحت زجاج سميك, لحسن الحظ تمكنت من رؤية سماء تحتها شجر أخضر, خضار ثابت لادرجات فيه, كأنه مصنوع لامزروع, أطرافه مهذبة والسماء فوقه بلون حيادي مخاصم للصورة, لأجساد البشر, الطريق, الملابس التي تمر هنا او هناك... جينز ضيق وايشاربات ملونة بألوان الببغاوات. عموما لم أعد اصدق الصور, لم اعد اصدق غيابها او الحضور, كما لم اعد اصدق الموت, المسافة بينه وبين غيابه تلاشت مثل خط رهيف, بجوار سريري من ناحية اليمين ينام مظروف اصفر خجول تختبئ فيه صور قديمة لعائلة زوجي, الصور لمجموعة موتي, التاريخ المكتوب علي ظهر الصور يلهو مثل طفل ينمو باطراد, أراهم جميعا في مواجهة الكاميرات, واري زوجي بينهم رضيعا ينظر للكاميرا بذهول. يرتدي جاكيت قصيرا وجدته فوق كل اطفال العائلة في عدة صور وفي اعوام مختلفة, وجدت الجاكيت ثابتا في الصور بلونه ومقاسه وملمسه فيما يتغير الاطفال داخله وان كان ما يجمع بينهم كونه يعطي دائما لأصغر طفل في العائلة, رأيتهم يكبرون امامي وتنبت لهم شوارب او اثداء فيما اختفي هو بعد عدة صور ربما يبحث الان عن رضيع آخر يلتف حول جسده. اجد اكثر الصور لوالدة زوجي, تقف بجوار كل ركن من اركان بيتها ذلك الذي اتجول به الان كوريثة اخيرة لعائلة اجتمعت كلها في ظرف صغير, ولمجرد كوني زوجة لاصغر ابنائها, السيدة تبتسم في الصور وتنظر للكاميرا بثقة عند حجرة الطعام, الصالون المذهب, التليفزيون وعند ثلاجتها البيضاء الضخمة, في عينها اري الفخر بامتلاكها للاشياء التي ابتاعتها بصبر شديد, ألاحق تاريخ العائلة المختزل كله في ذلك الظرف المهترئ, صور فوتوغرافية وفواتير شراء لكل الاشياء بالبيت, مقدم المبلغ, الاقساط جميعها تتلاحق شهرا وراء الآخر, اسم المحل وتوقيع المستلم, التواريخ تمر بنظام والسنوات تجري ببراءة وصمت فوق الفواتير, وفي ظهر الصور صرت أومن بالاشياء اكثر من الذين اتوا بها, الاشياء الصغيرة التي تبقي, الأكواب, السجاجيد, الملاعب والستائر بينما الناس تمر, يكبرون امام عيني ويخرجون من الكادر فيما انظر بعيني الي السماء التي امامي ابحث فيها عن لون اخر يمكنني التواصل معه. بصراحة انا لا أحاول بطريقة حقيقية واقع الامر انني انظر بعيني فقط من خلف زجاج نظارتي انظر بلاشهية واحاول تنشيط خلايا رأسي وعيني تلك التي اقلعت عن رؤية الوان جديدة منذ فترة. السيارة التي تأتي بي للعمل تمر علي معظم مقابر القاهرة, بدءا من مقابر الاتراك مرورا بالجندي المجهول وصولا لباب النصر ومقابر السيدة عائشة, افكر في المسافة بين الالوان واتعب من محاولة قياسها. قبل زواجي من الرجل الذي اعيش في شقته مع الظرف الذي يحوي صور عائلته قلت ازور الناس الذين سأرث اشياءهم, ذهب بي الي مقابرهم وجدتها مختلفة نوعا ما عن طريقة عائلتي في دفن موتاهم, بقريتنا يجعلون لكل شخص مكانه الخاص شاهده واسمه محفور عليه, وجريد يابس او اخضر يخصه وحده ولايشاركه احد فيه, اما ما شاهدته من العائلة التي ورثت اشياءها فقط جدار بطول عدة امتار مساحة افقية بلا بلاط, علي الجدار عشرات الاسماء المشتركة في اسم الاب او الجد او اللقب, كأنها قائمة مدعوين لمناسبة بهيجة, تركت زوجي يقرأ الفاتحة لارواح احبائه وانا تابعت العاب الاسماء والتواريخ فوق الجدار, اشقاء وعائلات باكملها تراصت في غير نظام لكن باكتمال وكأنها تنظر تنسيقا تاليا للحروف الابجدية او للسن او لتاريخ المجيء, فكرت في امكانية وجود مخاصمات بينهم او محبة, فكرت في رضائهم بالاقتراب هكذا من بعضهم او سخطهم العميق. أعاود النظر لجسدي صرت أكرهه كثيرا هذه الأيام صرت لا أعرف لأي الألوان ينتمي صار لونا محيرا لا هو لون زملائي الذين يركبون معي سيارة العمل ولا هو لون الشواهد الممتدة للموتي المرصوصين بامتداد الطريق من النزهة لحلوان اللعبة صارت ترهقني قليلا في البداية يكون من نعرفهم حولنا ثم يختبئون في جوف الارض وداخل الصور الفوتوغرافية فقط يتركون رائحتهم فوق فواتير الشراء, يغيبون واحدا تلو الآخر واحيانا نغيب نحن ننتقل ببساطة بين اللونين فقط للأطفال لون آخر, كتلة دافئة من العروق والدماء والضحكات والبهجة ودموع مالحة يطلبون بها الحليب ويغيرون بها الحفاضات للاطفال لون ساطع, لون برتقالي مثلا, فيما يحمل الموتي لونا آخر ساطعا أيضا, لكني لا عرف اسمه. طرفة سخيفة ألا يكون لي لون برتقالي, كما لم يوضع اسمي بعد علي جدار لاسماء الموتي, ولم اتمدد بجوارهم علي اي من الطرق السريعة. لون جديد سخيف ورأسي مملوء حتي آخره بأسماء الناس, في يقظتي أبدو كما لو كنت معهم وفي نومي يطلعون لي بحرية. امس فيما كانت نائمة قمت مؤخرا بزيارة سيدة احبها وعلمت انها ماتت يعني بطريقة هزلية مثل كل مرة كأن تقع علي ارضية الحمام بفعل قطرات ماء بريئة علي سطح السيراميك تدخل في غيبوبة بلهاء ثم تموت هكذا مثل المزحة التي نلقيها بلا اهتمام فلا يضحك عليها احد, امس في نومي, تحايلت علي اخي كي نزورها قال لاينفع, قلت طيب نزور اشياءها فلم يرد, صحوت قبل موعد اليقظة ورفضت العودة للنوم مادام حتي لم يجعلني اراها او حتي اري اشياءها. تعرفون انا اعرف انكم تركتموني منذ فترة, لم تكملوا قراءة هذا الكلام حتما, اعرف ايضا انني وحيدة وانني اكمل كلامي بآلية مثل عجوز يتمتم بأدعية وتضرعات وأساطير مملة قبل أن يريحنا الموت من ضوضائه البسيطة. اعرف ايضا انني وحدي ولا اجد ذلك بغيضا افرش ستارتي الرمادية والتف بها, اخرج انفي فقط كي يدخل الهواء لصدري وانعم بصمت نقي, صمت لاضجيج فوقه او تحته. انتم مشيتم من السطر الخامس او السادس علي افضل تقدير وان اترك جسدي لعمليات التحول وافكر فيما لو بقي واحد منكم يقرأ حتي الان, ماذا سأفعل ببقائه, موقف محرج جدا. إذ ليس من اللائق ان يتفرج احدكم امرأة مثلي تنام علي ستارة رمادية يظهر منها انفها فيما يتأهب جسدها لتغير اللون. عيب أن يتابع احد شيئا مثل ذلك, عيب. --------------------------------- * صدر لها: الذي فوق عن هيئة قصور الثقافة ثم طبعة ثانية عن مكتبة الاسرة. ومجموعة احلي البنات عن الهيئة العامة للكتاب. ومجموعة دوقة البلاد عن الهيئة العامة للكتاب وأخيرا رواية غنا المجاذيب عن الدار المصرية اللبنانية عام2009.