الصورة المعتادة التي تجمع بين الجاموس والأسود في البراري, تشمل في العادة مراقبة الأسود للجاموس لوقت طويل, وتربصها له, ثم اختيارها لأحد أفراد القطيع وانطلاقها في مطاردته بصورة جماعية. لعزله عن قطيع الجاموس الجبار, وإسقاطه بقطع أوتار ساقيه الخلفيتين أو بخنقه بسد منخاريه بفم أحد الأسود أو عضه من عنقه والضغط علي قصبته الهوائية لمنع تنفسه الذي يشكل آلة الحياة في لحظات العدو والصراع, ليسقط منهارا وتفترسه عصابة الأسود. وعندما تتأمل الأمر تجد أن الأسود القليلة العدد تقوم بهجومها بشكل منظم وتعاوني علي أعلي مستوي, أما الجاموس الهائل القوة كأفراد وكقطيع, فإنه يواجه هجمة الأسود بمحاولة الفرار التي تصيب القطيع بالاضطراب, وتسهل للأسود عملية عزل الفرد المستهدف بالقتل ومطاردته والإجهاز عليه وافتراسه. لكن ما شاهدته في فيلم صوره أحد الهواة وأذاعته قناة'NationalGeographicAbuDhadi', كان أسطوريا حقا, حيث كمنت الأسود بجوار النهر في انتظار مجيء فرائسها المحتملة للشرب, وجاءت جاموستان وصغير إحداهما نحو النهر قبل باقي قطيع الجاموس, وما إن اقتربت هذه الطليعة من النهر, حتي انطلق هجوم ستة من الأسود عليها, فولت الأدبار هاربة بمحاذاة النهر وهرب قطيع الجاموس القادم كله, وركزت الأسود هجومها علي العجل الصغير, الذي طارت لبؤة فتية وعضته في رقبته وسقطا معا في النهر, وبدأت عصابة الأسود تحاول إخراج العجل من النهر, حيث قامت مجموعة بجره من رأسه وساقيه الأماميتين إلي خارج النهر, بينما قامت اللبؤة الصيادة الأولي والتي كانت في المياه, بمحاولة دفع العجل إلي أعلي خارج النهر, وإذا بتمساح عملاق يعض أحد الأسود المهاجمة, لتخرج الأسود كلها إلي خارج النهر, وكل منها يمسك بما تيسر له من جسد العجل المسكين لجره للخارج, بينما أطبق التمساح بفكيه الرهيبين علي الساق الخلفية للعجل لإغراقه في النهر, حيث منطقة نفوذه وسطوته, وانتصرت الأسود علي التمساح وأخرجت العجل, لكنها وجدت ما لم يكن في حسبانها, أو ما لا يمر في خيال الضواري أبدا, حيث عاد قطيع الجاموس الهارب كله بصورة منظمة في هجوم مضاد هائل, واصطف في مواجهة الأسود مثيرا لعاصفة من الغبار, وتحول خواره إلي ما يشبه زئير الأسود نفسها. لكن المبادرة بالهجوم علي الأسود تحتاج لشجاعة استثنائية, وللخروج عن كل النمط السلوكي الذي توارثته قطعان الجاموس وصار ضمن جيناتها, ومنحت الكثرة والتضامن هذه الشجاعة لجاموسة قوية انطلقت بقوة وسرعة وغضب نحو عصابة الأسود القابعة علي جسد العجل الضحية, ففر أحد الأسود وطاردته الجاموسة في مشهد نادر وهو يلوذ بالفرار للنجاة بحياته من غضبتها وانتقامها, وعندما تأكدت من هربه, عادت بنفس القوة لتهجم بشراسة الضواري علي عصابة الأسود لتقذف بأسد آخر بقرونها القوية, رافعة إياه لخمسة أمتار في الهواء ليسقط مستجمعا ما بقي له من قوة ليطلق ساقيه للريح هربا من الجاموسة الرهيبة التي لم تتركه, بل عدت وراءه بكل سرعتها في محاولة للإجهاز عليه برأسها وقرونها. عند تلك اللحظة سرت عدوي الشجاعة في القطيع بأسره فهجم علي الأسود الأربعة الباقية لتخليص العجل الذي بدا وكأنه العنقاء التي تبعث من رمادها, وهو ينهض واقفا بعد كل ما جري له, لتقوم جاموسة أخري بالاندفاع برأسها للفصل بينه وبين الأسود التي أصبحت هدفا سهلا لهجوم الجاموس بعد أن انطلق العجل الصغير بحيوية غريبة بكل أشواقه للحياة, إلي مركز الحماية في قلب القطيع, لتفر الأسود الباقية كأنها النعاج الهاربة من الذئاب, ليحظي قطيع الجاموس بلحظة انتصار رائعة, يمكن أن تكون دائمة لو عمل بشكل تضامني وآمن بقوته كمجموع واستخدم أسلحته بشجاعة وإقدام. رغم أن القوة العضلية والمخالب الرهيبة والأنياب القاتلة والسرعة العالية, وخبرات القتل الموروثة بالجينات, تشكل عناصرالقوة الفردية لكل أسد, فإن العمل الجماعي للأسود في مواجهة الفرائس الكبيرة كالجاموس, هو سر قوتها وهيمنتها التي تجعل من حفنة من الأسود قوة مسيطرة تتعيش من قتل حيوانات جسيمة كالجاموس أو الخراتيت أو الزراف أو فرس النهر أو الحمير الوحشية, رغم أن أعداد هذه الحيوانات وقوتها الجماعية تبلغ آلاف أضعاف قوة عصابات الأسود. لأن الفرصة تأتي لمن يستحقها, فإن المصور الذي تموضع في مكان مناسب جدا, أمكنه التقاط حالة نادرة, وبدا كحارس المرمي الذكي الذي يتمركز بشكل صحيح فيسهل علي نفسه مهمة الدفاع عن مرماه, حتي وإن كان لا يملك سوي موهبة متوسطة, وهو ما يذكرني بحارس عملاق, هو الراحل ثابت البطل, الذي كان سر تفوقه هو تموضعه الصحيح بصورة استثنائية, رغم أنه كان أقل في باقي المهارات من أبناء جيله مثل العملاق إكرامي وعادل المأمور. ذكرني مشهد الجاموس والأسود بالعلاقة بين الرأسمالية والشعب, فإذا تركنا الدورالتاريخي الهائل والثوري الذي قامت به الرأسمالية في بدايتها التنافسية في قيادة التطور الاقتصادي الاجتماعي, والانتقال بالمجتمعات من النظام الإقطاعي المصاب بالجمود والذي تسوده علاقات أشبه بالعبودية بين الإقطاعيين والفلاحين الخاضعين لهم, وتقتصر نشاطاته علي الزراعة والصيد والصناعات اليدوية والخدمات المحدودة, إلي اقتصادات صناعية متنوعة وسريعة التطور والنمو, وخدمات أكثر تطورا, وزراعة قائمة علي العلم وأعلي إنتاجية, وعلاقات عمل قائمة علي درجة من الحرية. إذا تركنا هذا الدور, فإن الرأسمالية تحولت مع الزمن إلي نظام أشد استغلالا وضراوة من الإقطاع, مع تحولها لرأسمالية احتكارية, تزداد وطأتها عندما تسيطر علي السلطة والثروة معا, عندما يوجد الرأسماليون في مراكز الحكم ليرتكبوا كل رزايا الفساد, مستغلين حماية الدولة وأجهزتها, ليتحول النظام الاقتصادي الاجتماعي إلي نظام قائم علي سيطرة حفنة من الرأسماليين ذوي النفوذ السياسي علي مقدرات الأمة وعليها هي نفسها, وإدارة الدولة بمنطق أقرب إلي منطق عصابات الأسود أو الكلاب البرية, التي تستغل اللحمة بينها ونزعتها الهجومية والعدوانية في السيطرة علي قطعان أقوي منها كثيرا. لكن مشهد انتصار قطيع الجاموس علي عصابة الأسود, يؤكد أن الشعوب إذا تضامنت وأدركت أن قوتها هائلة, وأنها هي التي تصنع الحياة وتعطي لها طعما, يمكنها أن تزيح مستغليها وتحصل علي حقوقها وتقيم العدالة التي تبتغيها, والنظام الذي يعبر عنها ويحترم حقوقها وحرياته