صيف أنقرة كما هو لا يتغير, سكان العاصمة يرحلون إلي مناطق الجنوب للاستمتاع بالشواطئ والشمس الساطعة, ومنهم ولتدابير مالية متقشفة من يتجه إلي الشمال حيث سواحل البحر الأسود. وهؤلاء تحديدا يسرعون للعودة ليس لأن الإجازة انتهت أو للاستفادة من تنزيلات موسم يشرف علي الإنتهاء, بل لسبب ثالث أكثر أهمية ألا وهو متعة تسوق الرصيف حيث الباعة الجائلون. المدهش أن الأمر لا يحدث خلسة في الاطراف العشوائية بعيدا عن الأعين, وانما في قلب العاصمة وعلي بعد خطوات من' كيزلاي' أكبر ميادين المدينة, ويبدو أن مصطلح الاقتصاد الموازي يتم التغاضي عنه لدواع اجتماعية وإنسانية, وكأن هناك عقد غير مكتوب بين: مروجي بضاعات لا تحاسب ضريبيا ولا تدخل أرقامها في أي حسابات, وسلطات المدينة, فليس هناك مطاردات أو ملاحقات من قبل مسئولي البلدية, والهدف واضح وهو الحافظ علي أرزاق الناس ومنع الاحتقان, مقابل الهدوء والبعد عن كل ما يعكر صفو الأمن.. والسطور التالية تحكي يوما من أيام تسوق الرصيف: الساعة تقترب من السابعة, ضوء الشمس يتواري تدريجيا آذنا بالغروب, وها هي أصوات صرير غلق أبواب الحوانيت تسمع بوضوح, وكأنها إشارة لمن يهمه الأمر, فبالتوازي تبدو هناك في الشوارع الفرعية المنطلقة من جادة' أتاتورك بوليفار', أشخاص يهرولون وقد حملوا شنطا ضخمة جاءوا بها من سيارات تعرف جيدا أين تقف ومتي تعود إلي حيث أتت, وسرعان ما يلقونها في الأركان وأماكن لا يخطئونها استعدادا للحظة البدء, أيضا ينطلق الفتيان والفتيات يفرشون الأرض ينثرون البضاعة المخزونة في بالات, وكل منهم يعرف مكانه. الطريف أن امكانهم تبدو وكأنها ثابتة كتبت بأسمائهم, وبالطبع هذا غير صحيح لسببين الأول هو الخوف علي الرزق من الضياع, أما السبب الثاني فهو حرص الجميع علي عدم إثارة زوابع قد تطيح بهم جميعا دون استثناء. وما أن تدق الساعة الثامنة مساء إلا وتتحول معها تلك الشوارع إلي خلية نحل, فمحال الاقتصاد الرسمي أغلقت أبوابها, أما غير الرسمي وهو هنا الشباب العاطل الذي يبحث عن لقمة عيش شريفة, تجده وقد انكب علي الحقائب الضخمة يفتحها ويفرغها من محتوياتها. وما هي إلا لحظات بعدها تظهر الشوارع في ثوب مغاير.. محلات( دكاكين باللغة التركية) صغيرة وأصوات تنادي علي البضاعة دون أن يزاحم أحد الآخر, والبضاعة قد تكون متشابهة لكن لا أحد يغتصب زبونا فهناك قناعة وهي أن الأرزاق علي الله. والناس تهل.. من أين جاءت؟ ليس هذا هو المهم فالمهم أنها موجودة, وما تريده حاضر وموجود وبأسعار تتحدي. فالمعروض يتضمن تقريبا كل شئ أحذية حريمي ورجالي, وأطفال, وشنط اليد الحريمي بوجه خاص ومنها ما يصلح لأوقات العمل وزيارات النهار, ومنها الخاص بحفلات المساء والسهرات السواريه, والعطور من جميع الأنواع وتاريخ الصلاحية مطبوع علي الزجاجة, فليس هناك غش أو خداع هكذا يخاطبك البائع. بالإضافة إلي الإكسسوارات, والجمهور من كافة الفئات نساء ورجاال, آنسات وشبابا, الكل يتفحص بعناية وبدقة متناهية والفصال علي أشده وغالبا ما ينتهي إلي ما يريده الزبون. والبضاعة ليست كلها وارد جنوب شرق آسيا كما هو سائد في أسواق مجاورة لتركيا فهناك المنتج في تركيا وهو مدعاة فخر, في المقابل هناك المنتج في أوروبا وبعض الباعة يقسم علي أن بضاعتهم جاءت من أشهر بيوت الأزياء العالمية. الطريف أن' التيشرت' ذا الماركة العالمية لا يتجاوز سعر الواحد أكثر من عشر ليرات أي ما يعادل ستة دولارات! والحق أن المشترين أصحاب الدخول المحدودة والثابتة لا يعنيهم أسماء بيوت الأزياء وبالتالي فليس لديهم وقت للتحقق من الملكية الفكرية, فكل ما يعنيهم هو الأسعار فهي زهيدة صعب أن تجد لها مثيلا في محالات النهار, المثير أن المشتري سيدة كانت أم رجلا لا يخجل من الحديث بفخر عن بضاعة الرصيف ويصفها أنها جيدة. تسوق الرصيف لا يقتصر علي ذلك فحسب وانما يشمل الأدوات المنزلية بالإضافة إلي الكتب واللوحات والصور والأيقونات والعين الزرقاء خوفا من الحسد, والأخيرة عالم في حد ذاته بيد أنه يستحق موضوعا مستقلا خاصا به.