تتدافع الأحداث على الساحة السياسية السودانية بسرعة هائلة لم يسبق لها مثيل. وذلك بالنظر إلي أبعاد هذه الأحداث وخطورتها علي مستقبل السودان, ومستقبل المنطقة المحيطة به, باعتباره أكبر البلاد الأفريقية مساحة, وأكثرها جيرانآ, وما يلحق به من مكاسب أو أضرار, لا شك أنه ينعكس إيجابآ أو سلبآ_ حسب الحال- علي جيرانه الكثيرين. ويتمحور أهم هذه التطورات في الشواهد التي تتراكم بسرعة مذهلة مشيرة إلي ترجيح كفة انفصال جنوب السودان عن شماله, في أعقاب الاستفتاء المقرر إجراؤه في جنوب السودان في شهر يناير القادم. والأصل أن ينتظر الناس نتائج مثل هذه الاستفتاءات, ليروا ما تتمخض عنه, إلا أن تفاعلات الساحة السياسية في السودان, وبشكل خاص في الجنوب, وكذلك تحركات المحيط الإفريقي والدولي, ومؤشرات سلوك الدول الكبري, التي تدفع في اتجاه إجراء الاستفتاء, كل تلك الشواهد, تجعل المرء مواجهآ بواقع لايسير في اتجاه استمرار السودان كدولة واحدة, كما عهدناه منذ استقلاله في عام.1956 علي الرغم من محاولات يقوم بها بعض القادة في المؤتمر الوطني أوالحركة الشعبية بهدف تشجيع خيار الوحدة. برغم الحديث الذي ظل يدور في الأعوام الخمس الماضية, بعد إبرام إتفاق السلام(2005) عن الوحدة الجاذبة, إلا أن السنوات مضت سراعآ, ولم يحدث خلالها علي أرض الواقع ما يؤيد ذلك الخيار( في تقديري أنها لم تكن كافية لدعم هذا الخيار). وسمعنا منذ العام الماضي قادة الحركه الشعبية في الجنوب, يتحدثون لأهل الجنوب عن ضرورة التصويت للإنفصال, حتي لا يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية إن لم يفعلوا ذلك! ويحضرني تصريح في هذا السياق, اطلعت عليه هذا الأسبوع أدلي به مصدر مأذون, هو السيد إزيكيل جاتكوت' رئيس بعثة حكومة جنوب السودان' في واشنطن_ وصف فيه المباحثات الدائرة حاليآ بين حزبه والمؤتمر الوطني( فيما يعرف بالشريكين) بأنها مباحثات المقصود منها التوصل إلي طلاق سلمي.. بين الشمال والجنوب, وزاد في تصريحه الذي أدلي به في العاصم الأمريكية, وليس في مكان آخر.. ليس أمامنا سوي الاستقلال وبناء دولتنا الجديدة علي حد قوله. وتلك إشارات قوية, لا تصدر من فراغ, برغم ما فيها من واقع قد يكون صادمآ للبعض داخل السودان أو خارجه, ولا يخفي علي أحد أن الحركة الشعبية تسيطر علي جنوب السودان بشكل كبير, و لا يتوقع المرء معجزات تحول دون بلوغ الحركة لغايتها هذه, عند إجراء الاستفتاء, خاصة وهناك أطراف دولية نافذة, تشارك الحركة في هذا التوجه, برغم ما تعلنه أحيانآ من حياد نظري, أو إشفاق رومانسي علي سودان سينشطر إلي دولتين, كانت تتمني أن يظل واحدآ ولكن في تشكيلة سياسية مختلفة عن واقع الحال. الشريكان في الحكم( المؤتمر الوطني والحركه الشعبية) يجريان محادثات مكثفة هذه الأيام, يطلق عليها' مباحثات ترتيبات ما بعد الإستفتاء', وهي مباحثات تغطي مواضيع في غاية الأهمة بالنسبة لمستقبل السودان, وهي في جوهرها ترمي إلي إثارة القضايا الحيوية في علاقة الشمال بالجنوب بالنسبة لما تتمخض عنه نتيجة الاستفتاء. والواقع أن الطرفين لم يعلنا أنهما يبحثان' ترتيبات الانفصال' إلا أن الكثير من المحللين ينظرون إلي تلك المباحثات في هذا السياق. وبالطبع فإن شريكي الحكم في السودان, يعلمان علم اليقين, أن ما يتفقان عليه من ترتيبات, سيكون له آثار مصيرية علي مستقبل السلام والتنمية والاستقرار, ليس في السودان الواحد أو في السودانين, ولكن في المنطقة المحيطة بالسودان من أقصي شمال القارة الإفريقية إلي خاصرتها التي تضم دولآ تسودها الكثير من التشكيلات السياسية الهشة, والقابلة للانفجار. وبصورة موجزة, فإن علي الشريكين, وقبل إجراء الاستفتاء في مطلع العام القادم, أن يحرصا علي وضع تفاهمات وترتيبات لا لبس أو غموض فيها, وذلك للتمسك بالسلام وحسن الجوار, إذا ما افترقا بمعروف.... خاصة أن ما يترتب علي تفاهماتهما لا يخصهما وحدهما, بل يخص الشعب السوداني بأجمعه, ليس في حاضره فقط, ولكن أيضآ في مستقبله المنظور والبعيد علي حد سواء. وتشمل هذه الترتيبات, الفراغ من ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب, حتي لا يكون هناك مجال يفتح الباب لاحتكاكات لا طائل منها. كذلك من المهم أن يتم التفاهم علي المحاصصة في إيرادات البترول, لأن ميزانبة الجنوب تعتمد عليه بنسبة100% في إيراداتها, كما تعتمد حكومة الشمال عليه بنسبة60% في إيراداتها. ولا يمكن فك الارتباط في هذا المصدر الحيوي بسهولة, لأنه ينتج في الجنوب, ولكن خطوط أنابيب نقله, ومعامل تكريره, وميناء تصديره, تقع كلها في شمال السودان. وفي تقديري أن البترول كمصدر حيوي للطرفين, قد يكون له أثر إيجابي في تفاهمهما علي محاصصة واقعية, تنأي بالطرفين عن العودة للعنف, علي الأقل في السنوات الخمس القادمة. وهذا في حد ذاته أمر إيجابي, يجب اإستثماره في هذا الاتجاه. هنالك ايضآ مسائل عملية أخري لا بد من مواجهتها, ومنها مسالة تسوية أوضاع الجنوبيين في الشمال والشماليين في الجنوب, في حالة الانفصال. ولعل المناسب أن تكون هناك فترة انتقالية, لا تقل عن خمس سنوات, تمكن هؤلاء من تسوية أوضاعهم, إذا ما اتفق الطرفان علي مسائل الجنسية, وحركة الأشخاص والبضائع, ومسائل الإقامة الدائمة. والمهم هنا أن لا يتعرض هؤلاء لأوضاع مثل انعدام الجنسية, بما يسوغ تدخلات معقدة من جانب الأممالمتحدة, قد لا تخدم الاستقرار المنشود, علي المديين القصير والطويل. أما قضية مياه النيل, والتداعيات الخاصة ببنود إتفاقية عام1959, فتلك أيضآ مسألة تستدعي النظر بعقلانية وواقعية, لأنها لا تخص السودان وحده, وللوهلة الأولي يمكننا القول بأن توارث بنود هذه الاتفاقية, لأمر لا فكاك لجنوب السودان عنه. كذلك, لا بد من أن يتفاهم الطرفان علي مستقبل التعامل مع ديون السودان الخارجية, التي تتجاوز30 مليار دولار, وهناك بعض الأصوات في جنوب السودان التي تتحدث عن عدم إلتزامها بشيء من هذه الديون في حالة الإنفصال.! علاوة علي ذلك فإن هناك مسائل أخري مثل وضعية القوات المسلحة المشتركة, وتجارة الترانزيت والعضوية في المنظمات الإقليمية والدولية ووضع القوات التابعة للأمم المتحدة في الشمال والجنوب. ومما يعقد الوضع ويدفع في اتجاه لا يتمناه الكثير من السودانيين, أن الجنوب لم يعد مؤخرا جزءا من الدولة السودانية, إلا من الناحية النظرية فقط. إذ من الناحية الواقعية, هو كيان مستقل له جيشه وممثلياته في الخارج وله علمه وعلاقاته الخارجية, وممارساته الاقتصادية المنفردة, بل إن العديد من الدول ذات التأثير ظلت تتجاوب مع هذه الصيغه وتتعامل معها من قبيل الأمر الواقع. خلاصة القول, إن هناك الكثير من التداعيات والنتائج التي ستترتب علي انفصال جنوب السودان, سواء داخل السودان أو في محيطه, وعلي الحادبين علي سلام السودان أن يتحركوا بصورة إيجابيه لدرء أي من المخاطر التي ربما تهدد هذا السلام. ويحضرني هنا ما نقلته الأخبار عن وثيقة إطارية قدمها الإتحاد الإفريقي, للمساعدة في التعامل مع سيناريوهات ما بعد الاستفتاء, سواء كان الأمر وحدة, او انفصالآ أو ترتيبات فيدرالية أو حتي كونفيدرالية, برغم توجس الاتحاد الإفريقي مما يراه من شواهد تدفع نحو الانفصال. إن كاتب هذا المقال, بوصفه من جيل السودانيين الذين فتحوا أعينهم علي سودان واحد منذ عام1956, كان يأمل ألا يكون أيضآ من الجيل الذي يري السودان منشطرآ... إلا أن المشهد السياسي السوداني سواء كان ذلك في الشمال أو الجنوب, طوال مدة نصف القرن الماضي, لم يتمكن من تجاوز مهددات الاستقرار والسلام ومتطلبات التنمية المتوازنة. والنتيجة التي بلغناها, لا يتحملها غيرنا, بل نتحملها نحن أهل السودان, وذلك- كغيرنا من العديد من بلدان منطقتنا في القارة الإفريقية- لإدماننا سلوكيات سياسية تنزع إلي تأجيل المواجهة الموضوعيه لتحديات الفقر والتنميه والديمقراطية. وبرغم ما جري من مياه تحت الجسور ومحاولات مؤخرآ, لا تخلو من صدق النوايا, لإرساء السلام ونبذ التقاتل والعنف بالنسبة لمشكلة جنوب السودان, إلا أن ما يحوم في الأفق من شواهد يقول لنا إن قطار الوحدة بين شمال السودان وجنوبه, قد أطلق صافرته ومضي, دون أن نلحق به ونسافر علي متنه!