لاينسي أول لحظة رأي فيها والده المدرس يكتب حرف الألف علي السبورة! ولا أول مرة كتب هو فيها قصيدة. لكن النكسة أخرسته لعامين, وكان يمشي في الشارع علي غير هدي!.. وحين برئ من وطأتها بعد عامين خطفته القصة القصيرة, فأنتجت مخيلته ثماني مجموعات, وخمس روايات, ثم سبع مسرحيات وبعض المسلسلات. قدمها كلها في صمت, من دون مزاحمة علي ضوء أو منفعة, مخلصا لشيئين.. الأدب وتربية الأبناء. حين تشاغله فكرة يتأبط أوراقه, ويفر من صخب العاصمة إلي هواء رأس البر, مرج البحرين يلتقيان عذوبه النيل, وملوحة البحر, حيث تختلط الأضداد وتصطرع, فيضرب علي عرق الأجداد, مستنهضا دأب الدمايطة ودقة الأويمجية.. ليعود إلينا بكتاب جديد! ** القصص الأولي في مجموعتك الأخيرة عكارة الجسد تميل للتجريد, فشخصياتها بلا أسماء والفكرة بلا زمان ولامكان وتدور حول الإنساني عامة. فهل هي مرحلة الحكمة في الكتابة أم خلو الواقع من القضايا التي شغلتك في أعمالك السابقة, أم هي رغبة متجددة في التجريب؟ مامن مبدع في جميع الفنون إلا وانطلق من الواقع ثم حلق إلي آفاق من التجريد, ونجيب محفوظ مثلا بدأ تاريخيا في رواياته الثلاث الأولي, ثم انتقل الي الواقعية الاجتماعية, ومنها إلي الرمزية ثم حلق عاليا في سماء التجريد. و أولاد حارتنا فارقة في مسيرته الأدبية حيث انتقل بها فكرة ولغة وتقنية الي العالمية, وأنا بدأت واقعيا, لكنها واقعية مطعمة بسحر اللفظ والخيال, ومحلقة علي تخوم التعبيرية, عبر اكثر من مائة وستين قصة قصيرة ضمتها مجموعاتي الثماني وسبع مسرحيات, وخمس روايات, ومسرحيات وقصص للطفل, وعدة سيناريوهات. وكنت طيلة تلك السنوات مشغولا بالتجريب وظللت أربي جناحي, وأستعد للحظة أقلع فيها إلي فضاء التجريد حيث يسقط مالا لزوم له, الأسماء والمكان والزمان, ولايبقي غير المطلق الإنساني من بداية الحياة إلي قيام الساعة, وأنا لم أبلغ بعد مرحلة الحكمة, والواقع لايزال مليئا بالقضايا التي تشغلني ومجموعتي الأخيرة عكارة الجسد توضح ذلك, والقصص التي أشرت إليها ليست محاولة طارئة للتجريب, فالتجريب عندي لاينفصل عن الإبداع منذ بداياتي. * وفي المجموعة ذاتها تبدو لغتك شعرية, فهل ثمة ارتباط قديم بالشعر, أم هي لغة مناسبة للتجريد بعيدا عن معايير القصة التقليدية؟ الشعر أصل الفن, إن لم تكن شاعرا, فلن تكون مبدعا ففي الشعر تتكون لغتك, وصورك, وتتعرف علي مراياك وتتسع لك الحياة. وأنا حلقت مع شعر الفصحي والعامية ولي ديوان لم يطبع كتب مقدمته الراحل الكبيرزكريا الحجاوي وكنت أجوب بحار الشعر إلي أن صدمتنا هزيمة67 التي أخرستني عن الكلام لعامين, وكنت أهذي في الشارع وبعد ذلك كتبت القصة القصيرة, وأولاها كانت الشيء الذي يأتي متاخر جدا, عن غياب الحرية, ورفضت صباح الخير نشرها واكتشفت عبر مسيرتي الإبداعية أن الشعر يتمدد في قصصي جريحا. * من يقرأ هذه القصص فسيجد نفسه أمام هم وجودي في علاقة الإنسان بذاته والكون وأسرار الحياة وحالات انشغال روحية غامضة بعيدة عن الواقع, فهل ينجذب فارئ الأدب لهذه القضايا, ولأي مدي تستوعبها القصة القصيرة؟ المبدع مهموم بالوجود كله وليس بواقعه وحده, فالنظرة الضيقة الآنية تحبسه في قفص مجتمعه. وكثير من الأدباء انشغلوا بهموم كونية, ونجيب محفوظ بحث علاقة الإنسان بذاته وبالكون في روايتيه الشحاذ وقلب الليل ومجموعة همس الجنون ولأن قارئ الأدب له طبيعة خاصة فعليه أن يتعلم. فنحن بحاجة لقاريء مبدع ومشارك. * قصص السفروت والعصفور والبالونة الحمراء بمجموعة العصفور البطل فيها إنسان بسيط معدم وقليل الحيلة في الريف والمدينة حاولت استنهاضه,وهناك إشارة لأهمية التمرد والحب والفن والبراءة كأدوات مقاومة للقوي التي تصنع بؤسه, لكن الواقع يؤكد أن الفقير يزداد فقرا والبؤساء يتضاعفون, فكيف ينفعهم الأدب وسط هذه التفاقمات؟ الفن رسالة السماء ولن تخفت أبدا والشر والخير قرينان سيتصارعان إلي نهاية الكون, وكلنا ضد هذا الشر المتفاقم, ولو توقفنا فسينتصر الشر ولن يكون هناك خير ولاحب ولاجمال, ولن نعلي من قيم الحياة النبيلة, والكاتب مثل النبي في دعوة مستمرة ضد الشر, وإذا كان هناك حصار للحياة, فإن الفن الجميل يستطيع أن يخفف من تلك القبضة الصارمة علي رقبة الحياة. * وفي مجموعتك إنه ينبثق اهتممت بتحولات المظلومين ففي قصة حكايات عن الديناصور عرضت لنهم الكائن الخرافي الرواس وعجز مستغليه عن إطعامه, وخوفهم أن يلتهمهم كرمز لقوة المهضومين إذا استيقظوا, وفي قصة المائدة توحش الرجل والمرأة ونهشا لحم بعضهما فهل اقتربنا من هذه المخاوف أم نحن في قلبها الآن؟ من الأشياء التي تؤرقني دائما هم الجسد الجمعي والفردي, فبينما تعملق الجسد وازداد قوة وشراسة هبطت الروح وذوت حتي كادت تنعدم. وفي قصتي عكارة الجسد شغلني توحش الجسد الجمعي, وفي قصة جبروت ذهبت إلي أن تعملق الجسد الوحشي الخرافي علي حساب الروح سيؤدي لكارثة وهذا ما أكدته ايضا حكايات عن الديناصور, فالسادة استغلوا الرواس كآلة تعذيب في السجون, وحين امتد خطره إلي القرية خرج أهلها جميعا لمواجهته بالفئوس وحاصروه في حجرة وقطعوا أذنابه. * في مقالة لك بعنوان حكايتي مع القلم عن ميلاد أول قصيدة كتبتها تحدثت عن تلك اللحظة كأنها وحي ومقدسة في الإبداع عامل غيبي غير مفهوم هو نفحة من السماء اختص به بعض البشر وليس مسألة شطارة ولاثقافة, فإذا غاب هذا العامل الغيبي اختلت القصيدة, وانتحرت القصة, وضاع الفن في مسارب الثرثرة والبلادة. سم هذا العامل الغيبي ما تشاء لكنه بالحتم ضرورة للمبدع, لاينكره إلا الغارق في بركة الحياة, وحين كتبت عن والدي الشيخ الجليل الذي عمل مدرسا وناظرا بمدرسة القرية طيلة أربعين عاما كنت أرتعش لأنني أجله ولأنه نفحة السماء للقرية, علم رجالها ونساءها, وكان يدق علي البيوت في المساء لينبه علي التلاميذ ألا يتغيبوا عن المدرسة, كان فقيرا يساعد الفقير, وحين كان يشير نحو حرف الألف علي السبورة ويجلجل بصوته ألف كنا نرددها وراءه وكأنه يفتح لنا بوابة الحياة