كثيرا ما سمعت عن علم النفس الاجتماعي أو بالدقة المجتمعي وتلمست محاولات محدودة جدا فهمت منها أن الأمر متعلق بالتحليل النفسي للجماعات والمجتمعات وليس لمجرد الأفراد. وعشت طويلا علي هذا الفهم المبسط جدا حتي طالعت كتابا رائعا للدكتور خليل فاضل( وهو طبيب نفسي) والكتاب نسيج أدبي يقدم لنا صورة تحليلية علمية لأوضاع الفئات الاجتماعية وللمجتمع المصري ككل. وقد استمتع الكاتب والكتاب بتقديم للعالم الذي رحل أخيرا د. عبدالباسط عبدالمعطي قال فيه امتطي المؤلف بعمله هذا اسلوبا تركيبيا جمع بين البساطة وعمق التعبير والرصانة العلمية والحكاية, يأخذك معه رويدا رويدا حتي تغوص في أوجاع المصريين, فيحولك الي مشارك في القراءة والقص والتحليل العلمي, ليحفز فيك الفعل والوجدان, ويجعلك تفكر في اجابة مجتمعية, لماذا نحن جميعا منصرفون عن أسباب أوجاعنا المتعددة والمتراكمة؟ ويقول د. عبدالباسط ان المؤلف يلفت النظر الي رأس المال المصري البشري بكل مفرداته.. مؤكدا ان اهمال هذا الرأسمال هو إهدار لجوهر مستقبل هذا المجتمع ثم يختتم د.عبدالباسط تقديمه بعبارة حاسمة مؤكدا ان القيمة العلمية والمعرفية لهذا العمل تأتي من أنه يؤكد أن أوجاع المصريين هي حصاد لسياسات مجتمعية في بعديها العام والقطاعي تحاصر غالبية المصريين, فأخلاق الناس وقيمهم وتصرفاتهم هي نتاج طبيعي شبه حتمي لأحوالهم المعيشية وفرصهم المجتمعية وخاصة مدي مشاركتهم في صنع القرارات التي تهم مصيرهم ومصير مجتمعهم( ص10). أما في مقدمة المؤلف فإننا نقرأ اعتقد أننا هنا سويا سنفتح الجرح الجمعي, جرحي وجرح أبي وجرح أمي والناس كلهم, ومهما كان حجم الألم سنكون علي مستوي الأزمة, وسنتعرف علي أنفسنا نعم نحن المصريين سنعالج وجعنا بأيدينا وينبغي علينا أن نبحث عن الشمبانزي الاجتماعي الموجود فينا ومعنا, وسطنا داخلنا حولنا يملك شبكة علاقات اجتماعية مع الناس في العشوائيات وفي القري وفي الشركات في قاع المدينة.. ويسكن كالثعابين في خبايا القري الساحلية الشمالية وغير الشمالية( ص13) وبعد ذلك نلتقط ملاحظات طبيب أمراض نفسية نام المجتمع بأكمله علي سريره وبدأ يبوح له بأسراره وأوجاعه.. والطبيب يدون: * أطفال الشوارع: عورة نظام لا يوفر الحد الأدني من الرعاية الاجتماعية لمواطنيه, علي الرغم من كل مؤسساته الضخمة ومسئولية الفخيمين وشرطته المهيبة, التي كان المقر الرئيسي لعصابة التوربيني علي بعد مائة متر من أحد أقسامها. * أين هي المسئولية الاخلاقية لكل هؤلاء في مواقع السلطة, هؤلاء النائمون كأهل الكهف, أن كل أفعالهم وردود أفعالهم قاصرة عاجزة كسيحة. * إن الذين تسببوا بشكل مباشر أو غير مباشر في إيذاء الناس وكان لها تأثير سلبي علي مجتمعهم ومواطنيهم. تدرج هنا الرشوة والفساد القيمي والمادي, التلوث البيئي, كوارث القطارات, عبارة الموت, سرقة المال العام, إفساد الذوق, الواسطة والمحسوبية, وتكافؤ الفرص والفساد السياسي بكل أشكاله. * هل لنا أن نركز علي قدراتنا وليس علي نواقصنا؟ لابد أن نفهم لا أن نصرخ أو نبكي أو نندب أو نتحسر( ص28) * فساد القيم والأخلاق.. في إطار إحالة1165 مسئولا ورجل أعمال إلي الجنايات بادارة الكسب بوزارة العدل يصبح الموضوع أكبر من أن يفسر اجتماعيا أو أسريا وأكبر من مجرد رصد وتحليل نفسي أو اجتماعي. * التربص الاجتماعي.. هذا الرجل الذي يبدو قويا رابط الجأش يحمل في داخله نواة هشة, الجبن عنده سيد الأخلاق.. نادرا ما يري الناس كما يراهم الآخرون, مما يخلق موقفا قد ينتهي بأي منا ألا يكون أمينا مع نفسه, مما يؤدي الي عدم الرضا عنها, بل وربما رفضها وكرهها. فالهروب من الهوية الحقيقية قد يؤدي الي سلوكيات غريبة الشأن( ص40) * لقد أصبح الواحد منا لايثق بنفسه ولايثق في أهله أو صديقه ولا اليد التي يسلم بها ثم يعد أصابعه بعد كل مصافحة ان استساغة الخطأ المتكرر والدوران كالثور المعصوب العينين علامة علي العجز المكتسب من واقع متحايل متلون شديد الفظاظة والقسوة وشديد الميوعة أيضا( ص43) * الدروس الخصوصية: أصبح المدرس ضائعا بين صورة تاجر الشنطة الذي يبيع الوهم والأسئلة والاجابات. وأصبحت الدروس الخصوصية له وللطالب إدمانا يستعصي علي المدمن أن يتركه. هذا المدرس ضحية مجتمع فاسد ونظام تعليمي فاسد ينتهي به الأمر الي مجرد حساب في البنك ونفس عجوزة تسرب اليها الملل ولم يعد يسعدها أي شئ( ص133) وفي الختام يصفعنا خليل فاضل بعبارة وجهها له واحد كويتي مصر قاسية عليكم وأنتم بتحبوها, وهي ليست لكم وليست لأحد غيركم( ص311) وبعد.. من منكم لم يشعر الآن أنه بحاجة إلي أن يتمدد علي سرير الكشف بين يدي د. خليل فاضل ليتحدث عن أوجاعه أو عن أوجاع الوطن؟ أو هما معا؟ المزيد من مقالات د. رفعت السعيد