مع غزو الولاياتالمتحدة للعراق تحت دعاوي زائفة بأنه يمتلك ترسانة من أسلحة الدمار الشامل تهدد السلام والأمن الدوليين, تم اعتقال الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر دون أن يكون وجوده أو كتابته للشعر تمثلان تهديدا لأحد, بل كان شعره وسيظل مفخرة لمصر في ريادة التجديد الشعري في أواسط القرن العشرين. ومازلت أذكر في عام2005 أن اتحاد كتاب مصر كان يستعد لتكريم محمد عفيفي مطر بمناسبة بلوغه السبعين وبدأت تتوارد أخبار التكريم في مختلف أرجاء الوطن العربي, فاتصل بي مجموعة من الشعراء من فلسطين كان من بينهم الشاعر المتوكل طه والشاعر مراد السوداني وغيرهم, وقال لي مراد الذي صار الآن رئيسا لاتحاد كتاب فلسطين إنهم سبقونا الي تكريم محمد عفيفي مطر في بيت الشعر برام الله, وأصدروا بهذه المناسبة عددا مزدوجا من مجلة الشعراء عن إنجازه الشعري العظيم, لكن عم عفيفي كما اسماه لم يحضر التكريم ولم ير المجلة بسبب التزامه النبيل بعدم زيارة فلسطين طالما تدنسها قدم الاحتلال الإسرائيلي, واقترحت علي الاخوة الشعراء الفلسطينيين أن يكون التكريم في القاهرة باسم اتحاد كتاب مصر وبيت الشعر الفلسطيني معا, لعلمي أن ذلك سيسعد الشاعر الكبير وتكون تلك مناسبة لتوزيع العدد التذكاري الذي أصدروه من مجلتهم. وحين قمنا بعد ذلك بإخطار الاخوة الفلسطينيين بالفندق الذي سنستضيفهم فيه قالوا إنهم ليسوا بحاجة لفندق لأنهم سينزلون في بيت العرب, وكانوا يقصدون بذلك شقة محمد عفيفي مطر في القاهرة والتي أصبح مفتاحها علي مر السنين أحد المظاهر العملية للوحدة العربية, فقد كان مفتاح شقة الشاعر المصري الكبير في فلسطين كما كان في العراق وسوريا والسودان والجزائر مع شعراء وأدباء من أصدقاءه ينزلون بها كلما حضروا الي القاهرة حيث كان عفيفي يقيم معظم الوقت في قريته رملة الإنجب بالمنوفية ولا يستخدم الشقة إلا في زياراته للعاصمة والتي قلت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وقد حدث في بداية التسعينيات الماضية حين قام التحالف الغربي بقيادة أمريكا جورج بوش بغزو العراق, وفاض وجدان الشاعر المصري الأصيل بالغضب والحزن معا, أن حضر الي مصر بعض الأدباء والمثقفين العراقيين الذين قصدوا كعادتهم بيت العرب الذي يملكون مفتاحه, ورحب بهم عفيفي الذي تصادف أن كان في القاهرة ثم ترك لهم البيت وعاد الي قريته. وكانت آلة الإعلام الرسمية عندما تكيل اللعنات ليل نهار في ذلك الوقت للنظام العراقي الذي اكتشفت فجأة أنه نظام ديكتاتوري مستبد وتصاعد العداء لكل ما هو عراقي, كما تصاعد نفس العداء منذ بضعة أشهر ضد كل ما هو جزائري, وكما تصاعد قبل ذلك في سبعينيات السادات ضد كل ما هو عربي. ووجد شاعر مصر الكبير نفسه فجأه معتقلا في قبضة زبانية التعذيب بلا تهمة وبلا سند من قانون. وفي دهاليز الاعتقال تم الاعتداء البدني علي الشاعر الكبير الملتزم بعروبته في زمن الفرقة والتجزئة والاقتتال دون أن يفهم لماذا تكون مواقفه المؤيدة للعراق غير مقبولة من حكومة غير مسئولة عن الغزو, لكنه ظل صامدا لكل صنوف الإهانة والضرب والتعذيب فقرر معتقلوه أن يكسروا أنفه, حتي يرتدع. وخرج محمد عفيفي مصر من المعتقل بندبة ظاهرة فوق وجهه الحزين, وندبة أخري خفية في نفسه الأبية, كانت الندبة الظاهرة علي ذات الأنف الشامخ الذي لم ينكسر, فقد قطع الجرح اللحم لكنه لم ينل من العظم, ظل أنف عفيفي مرفوعا كما كان وإن اعتلته ندبة شوهت للابد اسم من ارتكبها ولم تسيء للوجه المصري الأصيل الذي تلقاها. إن من اقترب من عفيفي مطر يعرف جيدا أن تأثير تلك التجربة كان غائرا في نفس الشاعر, صحيح أن عفيفي لم يغير من مواقفه ولا عدل آراءه, لكن نفسيته نالها بعض الأذي من إحساسه بظلم الإنسان لأخيه الإنسان, فانزوي قليلا وأصبحت الأيام التي يقضيها في الريف بين الحيوانات أكثر من تلك التي يقضيها في القاهرة بين البشر. لكن بيت العرب ظل عامرا, وظل مفتاحه بعد رحيل صاحبه في مختلف أرجاء الوطن العربي وكأنه بذرة لم يشأ لها عفيفي أن تموت, فظلت تنبت كل يوم أزهارا في مختلف أرجاء الوطن العربي, لتؤكد أن بستان الوحدة العربية مازال أرضا خصبة لم تنضب برغم العواصف العاتية التي تترصده وبرغم الزبانية الذين يتعقبون كل من يقوم علي رعايته حتي لو كان شاعرا كبيرا وإنسانا جميلا مثل محمد عفيفي مطر.