..والضمير الذي رحل هو الناقد فاروق عبد القادر الذي فاجأنا برحيله منذ أيام. هل كانت مفاجأة حقا؟ كانت مفاجأة, لأنه حتي بعد أن داهمه المرض أو الأمراض التي لا أعرف عنها الكثير, وكف عن الكتابة, وفقد الذاكرة بعد أن فقد الأهل, ولم يعد أمامه أو امام الذين تولوا أمر العناية به إلا أن يجدوا له مكانا يؤويه في ملجأ للعجزة أو دار للمسنين أقول إنه ظل بعد هذا كله وبعد مالقيه من قبل.. المعتقل الذي ألقي فيه سنوات, والتطهر الصارم الذي فرضه علي نفسه, فلا يجامل من لايراه أهلا للجميل, ولا ينشر كلمة في صحيفة لايحترمها, وبعد أن علت سنه وتحالفت ضده سيئات الماضي وشرور الحاضر بعد هذا كله ظل فاروق عبدالقادر حاضرا نفتقده ونتحدث عنه, ونتلفت حولنا فلا نجده, ثم لايزيدنا غيابه إلا شعورا بحضوره ولهذا كان رحيله مفاجأةكأنها الطعنة الغادرة! لكن هذه المفاجأة لم تكن كاملة, أو أنها بالأحري كانت مفاجأة منتظرة متوقعة. أعني أننا نحن الذين فوجئنا برحيل فاروق عبد القادر كنا نعلم ان مانزل به في الستينيات, وماتلاه في السبعينيات, ومازاد الطين بلة في الثمانينيات والتسعينيات قد هده هدا, فاذا كان فاروق عبد القادر قد تحمل ماحل به, لم يشك ولم يتوجع, بل ظل يقاوم سنوات طويلة بعد سنوات طويلة لم يفقد خلالها صدقه ولاشجاعته, ولاقدرته علي الإصابة, ولاولعه بالدعابة والسخرية, فليس معني هذا أنه سيظل إلي الأبد علي هذه الحال. إذا كان فاروق عبد القادر قد هزم الكذب, والجبن والنفاق, والهوان, واليأس, والطمع, فليس معني هذا أنه سيهزم الموت الذي كنا نراه يتقدم نحوه في العتمة والصمت متلصصا, فلا نبالي به كأن الأمر لايعنينا, أو كأننا متواطئون مع الموت ضد فاروق عبد القادر! أولم يستشعر هو هذا الخطر؟ أولم ير بعينيه هذا المصير؟! بلي, وهاهو عمله الأخير, ترجمته لكتاب راسل جاكوبي نهاية اليوتوبيا.. السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة الصادر في سلسلة عالم المعرفة في الكويت شاهد علي أنه كان يري ويسمع. ولكن, هل ترجم فاروق عبد القادر هذا الكتاب الذي صدرت ترجمته في العام الأول بعد الألفين ليودع به الألفية المنتهية أم ليستقبل الألفية الجديدة؟ أقصد هل كان يري أن زمن اللامبالاة هو الذي انقضي, أم انه الذي بدأ؟ فاروق عبد القادر لم يكن متشائما, لأنه كان مؤمنا بالانسان وبقدرته علي أن يغير العالم ويتحكم في مصيره, ويبني اليوتوبيا, أي المدينة الفاضلة التي يحلم بها المفكرون والفلاسفة والشعراء, وينشئون لها في خيالهم طبعا حكومة مثالية تضمن لشعبها أن يعيش حرا سعيدا. ولقد ظل فاروق عبد القادر طول حياته يحلم باليوتوبيا. ظل يقرأ ويكتب, ويبشر ويتنبأ, ويدخل السجن ويخرج من السجن ليحلم باليوتوبيا من جديد, لايصرفه عنها خطر, ولا يوقعه في اليأس فشل أو هزيمة. لأن العدالة حق, والحرية شرط.. والتقدم قانون, وإذا كانت الحكومات الاشتراكية تخطيء فالشعوب تصحح الأخطاء. وإذا كان ستالين قد أعدم رفاقه الذين قادوا الثورة البلشفية واغتالهم فقد أكلت الثورة الفرنسية أبناءها وبقيت اليوتوبيا. بقي الحلم الذي لم يتحقق كله, لكن التاريخ لا يعود إلي الوراء. والذي تخسره البشرية في بلد تكسب أكثر منه في بلد آخر. وإذا لم نكن قادرين علي تحويل الحلم الي واقع, فلنكن علي الأقل قادرين علي التبشير به وانتظار تحققه. وقبل مائتي عام من الوقت الذي كان فيه فاروق عبدالقادر يترجم نهاية اليوتوبيا أي بالتحديد في العام الأخير من القرن الثامن عشر كتب الشاعر الإنجليزي صامويل كولريدج لصديقه الشاعر وليم ووردز ورث يقترح عليه أن ينهض لمقاومة الشعور باليأس والقنوط الذي ساد أوروبا في تلك الأيام بسبب ماوقعت فيه الثورة الفرنسية من أخطاء نفرت الناس منها وأضعفت حماستهم لها. وفي مواجهة هذه التطورات السلبية كتب كولريدج لووردز ورث يقول له: أريد منك أن تكتب قصيدة من الشعر المرسل موجهة لهؤلاء الذين تخلوا نتيجة الاخفاق الكامل للثورة الفرنسية عن أي أمل في مستقبل أفضل للإنسانية, وغرقوا تماما في أنانية أبيقورية متع حسية يخفونها تحت أقنعة العناوين الناعمة للترابط الأسري, واحتقار الفلسفات المثالية والحالمة. يقول مؤلف الكتاب راسل جاكوبي معلقا علي هذه الرسالة وأنا لم أكتب قصيدة. لكنني أميل إلي الاعتقاد في أن هذا الكتاب بدفاعه عن النزعة المثالية والحالمة, إنما يلبي علي نحو جزئي مطلب كولريدج. وأنا بدوري أميل إلي الاعتقاد بأن فاروق عبدالقادر حين قرر أن يترجم نهاية اليوتوبيا انما كان يلبي هو أيضا مطلب كولريدج, أي ان فاروق عبد القادر كان يقاوم زمن اللامبالاة الذي عشناه في الألفية المنتهية ولانزال نعيشه في هذه الألفية الجديدة. وهذا هو الفرق بين فاروق عبدالقادروكتاب ونقاد آخرين. فاروق عبدالقادر مثقف مبال. والآخرون قليل منهم مثقف, وكثيرون لامبالون. فاروق عبد القادر ليس مجرد صاحب صنعة, ولكنه صاحب رسالة يقرأ, ويشاهد ويتذوق, ويميز بين الجيد والرديء, لكنه لايكتفي بأن يكون شاهدا, وإنما هو طرف في القضية, يدافع عن الحق الذي يراه, ويخاصم الباطل, لايلقي السلاح, ولايكف عن النزال. عرفته منذ أواسط الستينيات. كنت أرأس القسم الثقافي في مجلة روز اليوسف حين عرضت عليه العمل معي فرحب. وكذلك فعل حين طلبت منه أن ينضم لكتاب مجلة إبداع التي لم يكن فيما يكتبه لها حول المسرح يتردد في إعلان رأي سلبي في عمل يقدمه مسئول في المجلة التي يكتب لها أو في الهيئة التي تصدرها وأنا لم أكن أتردد في نشر مايكتب. ولقد رحل فاروق عبد القادر. هذا العقل المثقف, وهذا القلم الشجاع, وهذا الضمير الحي. أليس رحيله دليلا جديدا علي نهاية اليوتوبيا؟! المزيد من مقالات احمد عبد المعطي حجازي