حين مات بيتر اختفت بموته القرية بكاملها من الوجود, وراح سكانها ضحايا سبب مجهول. لقد تعددت مرويات هذا الاختفاء, رغم ما كان لهذه القرية من جسد اقتصادي وحضاري ضخم وفريد وازدهار يفوق كل التصورات, فالشوارع مرصوفة, وأنظمة الصرف في كل مكان, والإنارة تبدد الليل في الطرقات, ومجموعات الشرطة توفر للناس الأمان. وقد تجلي حضور هذه القرية المفاجئ في أنها كانت أول مكان في العالم أنتجت فيه سيارات الركوب, وسيارات الشحن الضخمة, وأدوات الإنتاج المتنوعة, حتي إن بعض العزب من حولها تداخلت واندمجت في أملاكها. بالطبع كما يلح علينا التساؤل عن سر اختفائها, فإنه أيضا يحاصرنا تساؤل عن سر تلك القفزة وذلك الانبثاق, إذ تبدت القرية وكأنها قد رفضت الثبات في زمنها الثقافي خضوعا لأوامر ماض يشغلها تبريره, بل كان همها تغييره, فقررت أن تسابق التاريخ, بمحاولة امتلاكها ممكنات هذا السباق وأنساقه. إن الأغنياء الذين كانوا يملكون المناجم, واستخدموا للعمل بها رجالا من رعاية الكنيسة, قد تدافعوا إلي القرية بثرواتهم, واستطاعوا إغراء حكماء وعلماء بالحضور إلي القرية, حاملين معهم حكمتهم وعلمهم, وبالفعل حضر أينشتين, وجوتنبرج, وماركس, ولافوازيه, ودارون, وكثيرون غيرهم, وعاشوا في أعلي مبني بالقرية, يعملون ويتعاونون فيما بينهم لاكتشاف سبل تنمية أوجه الحياة بالقرية. صحيح أن شجارا دائما حاميا كان بين رئيس بلدية القرية وقسيس الكنيسة, وصحيح أيضا أن أحدا لم يكن يعرف أسبابه, لكن الصحيح كذلك أن أحدهما لم يكن موضع شك لدي الجميع, ذلك لأن كلا منهم له حسبته الخاصة التي تفرض عليه قبول صيغة المصالحة مع الجانبين, توقا وحرصا علي استمرار إقامته بالقرية. تري هل كان مابين الرجلين صراع مضمر, ينعكس علي أهدافهما ويتطلب منهما أن يتبدي الشجار معلنا, ولا تعلن للناس أسبابه, أو أن الناس كانوا يعرفون سر الصراع ويدعون عدم معرفته؟ تري هل كان الناس يفضلون العيش من دون الوجود الإنساني بقيمه, مع أن الحياة دون هذا الوجود تنطفئ؟ كان القسيس يمتلك تقنية سحرية أخاذة, في تمددها وسيطرتها علي الناس عند إلقائه مواعظه, ونشر تعاليمه وتنميتها فيما بينهم, كذلك استفاد من أعداد قليلة من الرجال لم يكن لها عمل, فاتخذهم حملة لتعاليمه ينشرونها وهم يتجولون في الطرقات, ويتسلطون علي الناس من منظور ترسيخ سلطانه, فيلصقون به ما يتخطي قدراته, ويقع ما فوق الواقع, إذ أشاعوا عنه ذلك الوهم الخادع الذي مفاده أنه يمتلك قدرة أن يحول الماء إلي نبيذ, ومن خلال هذا الترويج لعملقته استطاع القسيس أن يؤسس أول جمعية لزراعة الكروم بالمنطقة. لقد أصبح القسيس بذلك قوة في شبكة الممارسات اليومية الدنيوية الجارية, لكن لا شك أن القوة لا تكشف عن نفسها إلا عندما تصبح في علاقة مع قوة أخري, فتخضعها حتي تصبح هي السلطة المرجعية الآمرة, ويبدو أن الحيز المجتمعي هو القوة التي يسعي القسيس إلي إخضاعها بآليات سلطته المتعالية, إذ إن دلالة ترويجه لاقتداره علي تحويل الماء إلي نبيذ تشير إلي تأسيسه لموقفه الذي يتجاوز كل القوي الموجودة وتخطيها, ليحتكر وحده امتلاك القوة المتفردة الفائقة, بوصفها سلطة متعالية علي القوي الاجتماعية كافة, لذا كانت هوايته الأعظم هي إعمال الفكر, وإطالة التأمل وحيدا في بستان يقع وراء الكنيسة, وكأنه يمارس تخيل كيفية صياغة الإمساك بهدفه وتحقيقه, وذلك بشحذ وعيه, وشحنه بالاشتغال علي المخيلة, إذ الوعي الذي لا يتخيل, لا قدرة له علي امتلاك غير الموجود. كان بيتر هو الرجل الوحيد الذي شارك القسيس معظم أعماله, إذ إن ما يتبدي من علاقتهما يؤكد أنه تربطهما صيغة تعاضد, تنطلق من قناعة مشتركة أن السلطة هي بالأساس قوة, وقدرة, وذكاء, ورغبة جامحة في الحياة, ولعل مشروع بيتر الذي حاول تنفيذه تحقيقا لقدرته يمثل دلالة تجسد قناعته, فقد كان بيتر يعيش فوق أعلي مكان بالتل, فراح يبني برجا شاهقا ظل يعلو ببنائه حتي استبدت به رغبته أن يصل إلي السماء, وعندما عجز عن ذلك لم ييأس, بل حول قمته إلي برج لجرس يعلن به ساعات الوقت, فكان مع نهاية كل ساعة يصعد إلي قمة البرج كي يدق الجرس, عندئذ هجر الجميع ساعاتهم, وكف كل شيء في القرية عن حساب الزمن اعتمادا علي سماع دقات جرس برج بيتر, الذي أصبح يحتكر وحده مسئولية خارطة مملكة الزمن بتأثيرها وتوجيهها واحتكامها في القرية بكل ما فيها من بشر وحيوانات, ومزروعات, وجماد. مارس بيتر إمعان التفكير في مشكلات العمل, وتوصل إلي حلول قدمها إلي القسيس, ومضت الأمور في مسارها في ظل نصائح الحكماء والعلماء, وأيضا الحلول التي قدمها بيتر وبدأت القرية تحقق مستوي راقيا من التنمية. ويوما صعد القسيس إلي التل قاصدا أن ينام في برج الجرس, فقابل بيتر الذي دعاه إلي العشاء وقضاء ليلته في ضيافته, ظلا يتبادلان الحديث بعد العشاء لساعات طويلة, ونسي بيتر أن يدق الجرس في مواعيده, ولما انتبه خرج إلي الخلاء ليتبين أي وقت من الليل أصبح. فإذ به يكتشف أن ما من وقت قد مر, وأن كل شيء ظل علي ما هو عليه, حيث أهل القرية عند السفح ظلوا يواصلون أعمالهم, علي الفور دعا القسيس ليستطلع ما يراه, وتبينا معا أن الزمن بالفعل ظل متوقفا ولم يواصل مضيه, إلا بعد أن دق بيتر الأجراس, لحظتها حل الليل. صعق كل منهما مذهولا, واجتاحتهما الدهشة والإعجاب. وفي اليوم التالي قاما بالتجربة معا من جديد, فدق بيتر الجرس, فطلع الفجر, بعد ذلك دق الجرس اثنتي عشرة دفعة واحدة متصلة, فجاء الليل, لكن أهل القرية لم ينتبهوا لما يجري, ثم عاد في اليوم التالي فدق الأجراس حتي جعل الدنيا نهارا, ثم بعد الظهر, إلي غيرها من التوقيتات المتسارعة, عندئذ رسخت قناعتهما تماما بالقدرة الكلية التي يمتلكها جرس البرج في مملكة الزمن, وفي محاولة لعقلنة المفاجأة اكتشفا أن التحكم في الزمن وتوقيتاته, يصبح ممكنا فقط في الوادي, وذلك أن التلال تصد صوت الجرس, فلا يصل إلي أبعد من ذلك. ولأن مضي الزمن يشبه الصمت, لكنه صمت متحرك, وهو ما يعني أن الزمن لا يعرف إلا بآثاره, لذا ظلا معا يجربان الوظائف التي يمكن أن يقوم بها جرس البرج في تسريع الزمن باستعجال مواقيت دق الجرس, وهو ما سوف يغير من بديهيات ومسلمات, ويستجلب من مردودات, حيث يمكن جني ثمار محاصيل العام في عددة دقائق. راحا معا يفكران في مشروعاتهما الاقتصادية الكبيرة, لكن المأزق الذي لم يجدا مخرجا له, أن أهل القرية سيهرمون بالسرعة العالية نفسها التي يعملون بها, ولأنهما أيضا سوف يلقيان المصير نفسه, فقد وجدا مخرجا لنجاتهما وحدهما من سرقة عمرهما, إذ توصلا إلي تقنية تخص كيفية تجهيز حبال الجرس, بحيث يدق لأطول وقت يمكنهما من مغادرة القرية, فيما لو أرادا ألا يصل الجرس إلي أسماعهما, وهذا اعتصام يعفيهما من مداهمة الزمن, ويجنبهما ألا يهرما, ويفصلهما عن مصير أهل القرية المهمشين من اهتمامهما, تري ألا يعني ذلك أن خلف الوجه الإنساني لكل منهما حيوانا متوحشا, فقد كل تقدير بالنسبة إلي مجتمعه؟ لقد نفذا مشروعهما, وحققا في أيام قليلة مكاسب ضخمة تعلن عن فرادتها. صحيح أن القرية قفزت في مستويات الرفاهية حتي وصلت إلي آفاق تستعصي علي أية منهجيات أو اختراعات معرفية جديدة, وتنتفي في مواجهتها كل القياسات والمعايير. وصحيح أيضا أن كل السياح ورجال الاقتصاد الذين قدموا من أقاصي العالم لزيارة القرية, لم يستطيعوا أن يجدوا تفسيرا لأسباب هذا الثراء والتقدم, وما من أحد سوي القسيس وبيتر عرف سر تحقيق تلك التمنية المذهلة. وصحيح أن الزائرين قد تأثروا بتقدم القرية, لكن الصحيح كذلك أنهم لم ينتبهوا علي تأمل وجوه أهل القرية في اختلافها يوما وشهرا عن اليوم والشهر التاليين, ذلك أنهم قد تغيروا, وشاخوا, وماتوا بأسرع مما يحدث من قبل, نتيجة لحساب الزمن الذي جري تسريعه, لقد جري إخضاع القرية علي القطيعة مع زمنها, وإدخالها زمنا خارجا عنها بكل مساحته الوحشية المدمرة, الذي في ظله تحسب فقط حصص المنتصرين, ولا تحسب خسارات المنهزمين. صحيح أن ما تم يعد حرقا لمراحل التقدم, وصحيح أيضا أن التقدم يمثل انبهارا, ويعد عنصر جذب نفسي بالنسبة إلي الجماهير, لكن هل صحيح أن أمامه يمكن أن تتهافت جدارة قيم القسيس إذا كان علي الحقيقة رجل دين؟ لقد كان القسيس يعرف الأخطار العاجلة والمؤجلة لمشروعه, من عدوانية مستترة علي مجتمعه, فاعتصم بموقف خارجها مع شريكه حتي لا يهزما قبل الأوان, واستباحا حتمية المصير الكارثي للقرية كلها بتصميمها الوحشي وإرادتهما العمياء, اغتصابا, وغدرا, وتعمية, وسيطرة, واستغلالا لحقوق الناس وحياتهم. إنه الشر المطلق المضاد للأديان. مرت سنوات الزمن الحقيقي, وطعن بيتر في السن, ثم مات تاركا ثروة ضخمة. وتحكي المرويات أنه عندما مات, ماتت القرية أيضا, إذ طار كل شيء في الهواء مصحوبا بانفجار ضخم في قلبه المثقل بمشاعر الندم, كما تسرد مرويات أخري أنه حدثت مجزرة بشرية بين الذين وقفوا إلي جانب القسيس, وأولئك الذين وقفوا إلي رئيس المجلس البلدي, وتقص مرويات مغايرة أن أعباء التقدم الشديدة الوطأة جعلت أهل القرية يغوصون في الأرض, وتعددت الحكايات التي لا تبلغ اليقين. لكن ماحدث أنه بعد موت بيتر, بدأ الزمن يتباطأ تدريجيا مع كل الجهود التي بذلها القسيس من محاولات لم تفلح في استعادة الجرس استمرار تواصل دقاته المتسارعة بالزمن, وشيئا فشيئا صارت الحياة بطيئة جدا, والمحاصيل تنضج ببطء شديد, والسيارات فقدت كل سرعتها, حتي الأشياء عندما تقع علي الأرض تسقط ببطء, وأهل القرية أيضا بدت قلوبهم تنبض ببطء شديد, ويتساقطون ببطء, ويتهاوون ويقعون صرعي, حتي انتهي الأمر بالتوقف الكلي للزمن, واختفت كل صور الوجود: الوادي, والكنيسة, وجرس البرج, والعلماء, والقسيس, كل شيء لم يعد موجودا. تري هل هناك أية مسئولية قادرة علي معادلة ما اقترفه القسيس وشريكه؟ لاشك أن الكاتب المكسيكي خيراردو ماريا, في قصته قرية بلا زمن, يشير إلي دور فاسد مقنع, طرح في الخفاء رهان مصالحه الذاتية, وجرف أمامه حدود الدين, والمفاهيم, والقيم, وقذف بالقرية إلي الجنوح في متاهة وضع مغدور, يخفي التبديد ومسبباته, وقام مع شريكه بتجهيزه وتنفيذه, مقتنصا بمكر تجليات جهود المجتمع لتنزلق عليها سيطرته وثرواته, ممارسا الاتجار بالمقدس في الاتجاه المعاكس لتعاليمه. صحيح أن انفجار القرية مصدره ذاتها, لكن الصحيح كذلك أن ذلك يكشف عن افتقادها إنجاز رأس مال سياسي مدني, يقود المجتمع, ويحمي مقدساته من الاقتناص, ويحمي أيضا فتوحات تقدمه, ويواجه بسلطات مؤسساته سلب الناس حريتهم الحقيقية في ممارسة حق الفهم, حتي لا يخضعوا لمجهول يمارس التضليل ليستولي علي كل الحقوق, ويستجلب العدم بدلا من المستقبل الزاهي. المزيد من مقالات د.فوزي فهمي