يحتاج المحكوم عليه بعقوبة السجن الي مأكل ومشرب وملبس ومأوي واعاشة كاملة علي حساب صاحب المحل من ميزانية الدولة المتواضعة.. وتحتاج أسرة السجين الي عائل ينفق وصمام أمن وأمان من صواعق السماء وحامي حمي من أعين المتربصين من الذئاب البشرية الذين عادة ما تتجه أنظارهم الي الزوجة التي غاب عنها زوجها لتصبح مطمعا لكل من هب ودب وكذلك الأبناء الذين يدفعهم العوذ والاحتياج للانحراف ليصبحوا نواة لتشكيلات عصابية واجرامية جديدة ليزداد الطين بلة وتتفاقم مشكلات المجتمع بدلا من البحث عن حل جذري للقضية برمتها. لهذا خرجت بعض الدراسات من المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية تطالب باستبدال الحبس قصير المدة بالعمل الطوعي, وهو الأمر الذي انقسمت الآراء حوله بين مؤيد ومعارض واختطلت الأوراق بشأن الدراسة المثيرة للجدل,فبينما حرص فريق علي تعزيز مخاوفه من ارتفاع معدل الجريمة بتخفيف العقوبة أكد البعض الآخر أن الحبس قصير المدة يكون نتيجة جرائم الصدفة التي تتم دون تدبير وسبق اصرار وترصد وان الزج بمرتكب الجرائم البسيطة في السجون يحدث نتائج عكسية ويجعله يتاثر بسلوك زملائه من رفقاء الزنزانة ويتعلم منهم الاجرام علي أصوله ويتحول من مجرم بالصدفة الي مجرم محترف. أيا كان الأمر, خرجت تحقيقات الجمعة تناقش القضية, وسنري؟! عن فكرة الدراسة يقول د. عطية مهنا بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية إن المقصود باستبدال السجن بالعمل الطوعي هنا هو أن يؤدي المحكوم عليه بالسجن مدة أقل من سنة عددا معينا من الساعات في عمل مفيد للمجتمع, وبدون مقابل, في أوقات فراغه, علي أن يستكمل العمل في خلال مدة محددة. والقاضي يحكم بهذه العقوبة كعقوبة اصلية بديلة لعقوبة الحبس, فهو غير العمل كجزء من عقوبة سالبة للحرية سواء كان داخل السجن أو خارجه. وتشترط معظم التشريعات المقارنة ان يوافق المتهم علي هذا الجزاء وذلك حتي لا يكون الجزاء مماثلا للعمل الاجباري والذي حظرته اتفاقيتا منظمة العمل الدولية والاعلان العالمي لحقوق الانسان. وعن الاسباب الحقيقية وراء الدراسة يقول د. مهنا: كشف تطبيق الحبس قصير المدة وكذلك الدراسات التي أجريت بشأنها عن مشكلات عديدة لها انعكاساتها السلبية علي كل من المحكوم عليه بها وشاسرته والمجتمع. ومن أهم هذه النتائج التي أجريت أن هذه العقوبة نظرا لكونها قصيرة فانها لا تسمح باستفادة المحكوم عليه من برنامج متكامل للتأهيل, ومن ثم فانها لا تحقق أهم أغراض العقوبة وهو التأهيل, كما واجه غالبية المحكوم عليهم بهذه العقوبة مشكلات صحية ومادية واجتماعية وأخلاقية واسرية, هذا علاوة علي أن نسبة كبيرة منهم اكتسبوا بعض العادات السيئة وتعلموا أساليب اجرامية من جراء اختلاطهم بآخرين من المحكوم عليهم بعقوبات متوسطة أو طويلة المدة. وهناك أيضا أثار سيئة انعكست علي علاقة الزوجة بزوجها المحبوس, حيث حدث فتور في العلاقة الزوجية, وحدث الطلاق في بعض الحالات وهجرت بعض الزوجات منزل الزوجية, كما ترتب علي حبس الزوج أن نسبة كبيرة من الزوجات اضطررن للعمل, وترتب علي ذلك اهمالهن في رعاية أولادهن. كما تبين أن الأبناء اصيبوا باضرار مختلفة, منها انقطاعهم عن التعليم بسبب عدم القدرة علي دفع نفقات الدراسة, والهروب من ازدراء زملائهم لهم, واضطرار نسبة كبيرة الي العمل والهروب من المدرسة, وفسخ الخطبة والطلاق والانحراف فضلا عن الآثار النفسية مثل الشعور بالخزي. كما تبين ايضا أثر وصمة السجن علي علاقة المبحوث بوالديه واخوته وأخواته. فتأثرت علاقات السجين مع الجيران وكذلك علاقاته مع أصحاب الأعمال,فواجه كثيرمنهم الفصل من العمل. وفي الدراسة محل النقاش التي تدور حول استبدال الحبس قصير المدة أقل من عام بالعمل الطوعي مطالبات جادة بأن يستحدث المشرع المصري بدائل مثل العمل لخدمة المجتمع, وكذلك اجراء بحوث ميدانية عن البدائل, بحيث يمكن اختيار بدائل تتناسب مع مجتمعنا المصري ونطاق تطبيقها بالنسبة للجرائم علي اختلاف أنواعها. وأوضحت الدراسة أن هذه العقوبة هي السبب الأول في ازدحام السجون ولذلك اتجهت السياسة الجنائية الحديثة للحد منها والبحث عن بدائل لها. ورأي الباحثون أن بدائل الحبس كثيرة كالعقوبات الشفوية والتحذير والتوبيخ والانذار,واخلاء السبيل المشروط, والعقوبات التي تمس حالة الفرد القانونية, العقوبات الاقتصادية والجزاءات النقدية كالغرامات والغرامة اليومية. ويري أن الدراسة ستساعد واضعي السياسة الجنائية في مصر علي التعرف علي تلك العقوبة كبديل للحبس قصير المدة بالنسبة للبالغين, وتطبيقها, وأهم ضوبط ذلك التطبيق, واختيار الجرائم التي تتناسب معها, خاصة وأن ذلك النظام لن يؤدي الي انتزاع المحكوم عليه من بيئته, بل يبقي في وسطه الاجتماعي وأسرته وابنائه, وهو بذلك يتجنب الاختلاط بالمجرمين المحترفين ومعتادي الاجرام, كما يتجنب وصمة السجن واثارها السيئة عليه وعلي اسرته.. ويؤكد أن الأخذ بهذا النظام يقلل من ازدحام السجون, ويوفر المصاريف الباهظة التي تنفق علي المحكوم عليهم بهذه العقوبة أثناء وجودهم بالسجن, كما أنه يقلل من خريجي السجون والذين يحتاج غالبيتهم الي الرعاية اللاحقة. وسيؤدي هذا النظام دورا فعالا وايجابيا في حل بعض مشكلات المجتمع, مثل مشكلة الأمية لا سيما بعد ما تبين ان جهود محو الأمية لم تؤت كل ثمارها المرجوة, وذلك بأن يكون ضمن أعمال خدمة المجتمع التي يحكم بها القاضي كعقوبة أصلية العمل في محو الأمية خاصة بالنسبة للمحكوم عليهم المتعلمين, وذلك بالتنسيق مع الهيئة العامة لمحو الأمية. تقول الدكتورة فوزية عبد الستار استاذ القانون الجنائي: بكل تاكيد ومن المسلم به في نطاق دراسات علم العقاب أن الحبس قصير المدة ضرره اكثر من نفعه لعدة اسباب أهمها: أن الحبس قصير المدة لا يزيد علي سنة ومعني ذلك أن السجين لن يستفيد من البرنامج التأهيلي الذي يخضع له المسجون لقصر المدة, وبالتالي يكون قد قضي فترة السجن هباء. بل قد يحدث العكس نتيجة اتصاله بالمجرمين ويتأثر تاثيرا سلبيا ويتعلم الاجرام وفن الهروب من السجن وربما يحدث تكوين للعصابات الاجرامية داخل السجن وهو ما يلحق اضرارا كبيرة بالنسبة للمحكوم عليهم في عقوبات بسيطة. وبالنسبة للأسرة قد تفقد الأسرة من يعولها وينفق عليها وقد تنحرف الزوجة والابناء. أما بالنسبة للمجتمع فإن السجين يفقد عمله بدخوله السجن مما يهدد بعودته الي السجن بعد خروجه. وتنتهي د. فوزية عبد الستار الي أن المسألة تحتاج الي دراسة نظرا لأهمية الموضوع لأن المجرم الذي يرتكب جريمة قصيرة المدة ينتظر منه عدم العودة الي الاجرام خصوصا اذا تمكنا أن ننقذه من مخاطر السجن, وحتي لا يتحول الي مجرم معتاد. يقول اللواء محمد عبد الفتاح عمر وكيل لجنة الدفاع والأمن القومي والرقابة الادارية بمجلس الشعب ومساعد وزير الداخلية السابق إن فكرة الدراسة التي تتناول العمل الطوعي بديلا للحبس فكرة جيدة من شأنها تخفيف العبء الملقي علي عاتق مصلحة السجون ووزارة الداخلية والميزانية العامة للدولة. فالشخص المتحفظ عليه والمحبوس في جريمة قصيرة المدة يحتاج الي اعاشة كاملة من مأكل ومشرب وملبس ومأوي وهو ما يكلف الدولة الكثير. أما الاقتراح بأن المحكوم عليه في عقوبة بسيطة يؤدي عملا ميدانيا فهذا مفيد له وللمجتمع علي السواء. يقول الدكتور عبد الباسط عبد المعطي استاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة عين شمس إن الموضوع جيد وبه فكرة انسانية, خاصة وأن الطبقات الشعبية هي الشريحة الأكثر تضررا بفقد عائلها ومصدر دخلها والانفاق عليها مما يؤثر سلبا علي الزوجة وقد يدفع بالأبناء الي انحراف آخر. وأكثر الأسر تأثرا هي أسر العمال والحرفيين التي تتاثر اقتصاديا بغياب عائلها وقد يترتب علي هذا انهيار اسري. والفكرة جديرة حقا بالدراسة الا أن الصعوبة ستكون في التطبيق والتفعيل. إن العالم بأكمله يتجه الي فكرة السجون المفتوحة ومعسكرات للعمل العام باعتبار ضرورة وجود الأب وسط أبنائه وزوجته, خصوصا أن التكلفة الاجتماعية لغياب العائل باهظة.. ولهذا هناك اعادة نظر في الحبس قصير المدة خصوصا أن نوعية الجرائم التي يرتكبها هؤلاء هي جرائم صدفة. ويمكن أن يخضع المحكوم عليه سواء كان غنيا أوفقيرا للعمل في معسكرات الخدمة العامة في فترة زمنية قد تكون من الثامنة حتي الرابعة, ثم يعود ليبيت مع الأسرة. لا بدائل للطفل أما السيدة وفاء المستكاوي مدير الادارة العامة للدفاع الاجتماعي بوزارة التضامن فتقول: أنا مع الدراسة ولكنني اتساءل لماذا أغفلت الدراسة الأطفال ولم تتضمن ايجاد بدائل عن الايداع والحجز, خاصة اذا كانت ظروف الطفل الأسرية وتساعد علي بقائه مع اسرته ليحظي بالرعاية والحنان. خاصة أيضا أن التعديلات التي ادخلت علي قانون الطفل تطالب بايجاد تدابير جديدة للعمل للمنفعة العامة. يقول د. سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف إن الحبس في الشريعة عقوبة استثنائية لا يعاقب بها القاضي الا اذا علم أنها مفيدة, فهي عقوبة اختيارية له, ولا يعاقب بها الا علي الجرائم البسيطة بصفة ثانوية. بخلاف القانون فانها أصلية, وهي العقوبة الأولي والأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريبا سواء كانت خطيرة أو بسيطة. وعليه فان السجون اصبحت منابع للاجرام, رغم أنها في منشأها تحاربه, فالمسجون ربما يدخل مجرما بسيطا يخرج أشد اجراما. ويضيف أنه لابد من ضوابط لتنفيذ عقوبة خدمة المجتمع يراعي فيها خصوصية المجتمع المصري وعاداته الاجتماعية وتقاليد المناطق المختلفة كمحافظات الصعيد مثلا عند تطبيق هذه العقوبة. وألا تطبق هذه العقوبة الا علي أصحاب السابقة الأولي. وكذلك المراقبة الدائمة لآلية التنفيذ وضمان عدم استخدام الرشوة والمحسوبية. أما عن أبرز ايجابيات الدراسة فيقول د. عبد الجليل أن أهمها مراعاة استقرار الأسرة ووجود العائل بينها نفسيا وماديا وحماية المجتمع من اضافة العديد من الجرائم المكتسبة من خلال مخالطته للمجرمين.. أما عن السلبيات فيخشي الدكتور عبد الجليل من الاستهانة بالعقوبة وتنامي هذا النوع من الجرائم اذا أمن الجاني العقوبة.. والتوجس من عدم رضاء المجني عليه بالعقوبة البديلة.