دخل صديقي إلي مكتبي ثائرا, تخرج الكلمات الغاضبة من فمه مثل حمم بركان يغلي: كل حاجة بقت صعبة, البيت والشارع والامتحانات والسوق والشغل, لو كنت أصغر عشر سنوات لهاجرت إلي الإسكيمو أو بلاد الماو ماو! ابتسمت في وجه وقلت له: أهدأ قليلا واشرح الحكاية. تجاهل ابتسامتي وراح يسب الدنيا وأحوالها دون هوادة, ثم سكت فجأة وحدق في عيني عامدا وسألني بحدة: هل صحيح أن مصر أم الدنيا؟ أقصد قل لي سببا واحدا ممكن أصدقه الآن ويدل علي أنها مازالت أم الدنيا. أجبته دون تفكير وبحسن نية وسذاجة مفرطة: طبعا مصر أم الدنيا.. وعندك مليون سبب, التاريخ والحضارة والنيل والشمس والأرض السمراء والناس الطيبة والعشرة الحلوة.. وقاطعني محتدا مستهزئا: والتراب والتلوث والزحام ونارجهنم في الصيف والسحابة السوداء في الشتاء, والفهلوة والعشوائيات القبيحة في كل مكان والطوابير علي العيش, من فضلك ارحمني من كلام الأغاني.. هذا موضوع جد جدا. قلت باندفاع دون أن أتخلي عن حسن نيتي: ياسلام يا أخي, كل واحد لابس نظارة سوداء مثل نادية لطفي لازم يمرر علينا عيشتنا, فيه حاجات كثيرة جميلة, ولع شمعة أحسن لك من لعن الظلام! بهدوء ساخر عجيب هبط عليه كالقضاء والقدر: طيب يا حبيبي.. سأولع مليون شمعة, بل شموع الدنيا كلها, ولن تحل المشكلة. انتهزت لحظة الهدوء التي شملته وسألته: ما المشكلة التي جعلتك غاضبا إلي هذا الحد؟ كنت أتصور أنه سيقص علي مصيبة من المصائب التي وردت في الجرائد أخيرا, مثل مصيبة الخلاف الشرس بين القضاة والمحامين وتعطيل مصالح الناس, أو سقوط طبيب القلب الشهير بعد أن فتح عيادته ماخورا للمتعة الحرام, أو.. أو, فإذا به يقول: الأسانسير ياسيدي! أصابني فزع مباغت وتوالت علي عقلي مشاهد دموية من فيلم سينمائي شهدته قبل سنوات باسم الأسانسير القاتل, فسألته مضطربا: وماذا صنع بك الأسانسير؟ فإذا بالإجابة التقليدية تندلق ملولة من فمه: عطلان من أسبوع.. وحالته عدم, يوم شغال ويوم واقف. قلت: فعلا.. حالك يصعب علي الكافر. ولم أكن مجاملا.. فصديقي من عشاق الأدوار العليا, ويسكن في الدور الثاني عشر من عمارة شبه حديثة علي مشارف مصر الجديدة, ولديه بعض مشكلات في قدميه, فقد كان لاعب كرة قدم أصيب مرات عدة بخشونة في الركبة تآكلت معها غضاريفها. فسألته: ولماذا لا تجرون له عملية إصلاح شاملة؟ أجاب: حدث, لكن العمارة48 شقة وكان المفروض أن يكون بها أسانسير ثان, لكن صاحب العمارة من باب التوفير لم يبنه, وباع العمارة تمليكا وتركها, ويديرها الآن اتحاد من الملاك, ولم يعد الأسانسير قادرا علي خدمة العدد الكبير من السكان, لاسيما وهو صغير ومن طراز قديم نسبيا. قلت: غيروه وركبوا أسانسير جديد. قال: بقالنا أربع سنوات نتحدث عن الأسانسير الجديد ولا حياة لمن تنادي, وعملنا مقايسة مبدئية له بنحو120 ألف جنيه, سكان الأدوار من الأول إلي الرابع أذن من طين وأذن من عجين, وسكان الأدوار من الخامس إلي السابع نصف مهتمين ولا يبقي إلا الأدوار الخمسة الأخيرة, وهم عشرون شقة يكلمون أنفسهم, ومن الصعب أن يتحملوا ثمن الأسانسير لوحدهم. سألته: وماذا فعلت؟ أجاب: كلمت رئيس اتحاد الملاك, فاكتشفت أن معظم السكان يدفعون تكاليف الصيانة الشهرية بصعوبة, بل إن بعضهم متأخر عن السداد بالأشهر. سألته ضاحكا: هل هم موظفون علي الدرجة العاشرة؟ أجاب: أبدا.. موظفون كبار ومديرون وضباط وأصحاب أعمال خاصة وصيادلة ومدرسون وأطباء ومحامون وصحفيون. وأسهب صديقي في شرح المصاعب في جمع ال120 ألف جنيه من48 شقة, البعض يشكك في المقايسة, والبعض يشكك في جدوي الأسانسير الجديد.. طيب اسم الشركة إيه. تعب صديقي من الكلام وركن إلي الراحة والسكات الذي هو من ذهب, ثم نهض متألما واستأذن ليعود إلي بيته وهو يقول لي:140 سلمة بالتمام والكمال! غادرني صديقي ولم يغادرني سؤاله الأول: هل مصر مازالت أم الدنيا؟! ومصر ليست موقعا حغرافيا فريدا, ولا بحرا ولا نيلا ولا شمسا ولا قمرا ولا.. ولا.. مصر هي ناسها, حالها وأحوالهم, علاقات ومعاملات وحياة يومية. والأسانسير مجرد حكاية أو نموذج لما نفعله مع بعضنا البعض كل يوم, كما لو أننا نهوي تصعيب الحياة علي أنفسنا وعلي الآخرين. من فضلكم انظروا إلي جوانب حياتنا.. وأسألوا: ما الذي نصنعه؟! أعمال وأفعال لا حصر لها ولا آخر نمارسها بتلذذ مريض لنجعل الحياة أكثر صعوبة, فهل يمكن أن نتصالح وننهي هذه الحرب الأهلية في السلوك السلبي مع الآخر؟!