شاءت إرادة الله, الذي لارد لقضائه, ولامعقب لحكمه ألا ينصرم العام الميلادي السابق, دون أن تشهد بضع ساعاته الأخيرة, فقدان مصر أحد أبرز عظمائها, وأقدر حكمائها, وأجل قضاتها, وألمع مشرعيها, شيخ شيوخ القضاء المستشار فاروق سيف النصر, بعد حياة حافلة بالعطاء, ممزوجة بالوفاء قضاها في محراب العدالة ناسكا, وفي النهوض برسالة الحكم بين الناس فاحصا متعمقا مدققا, لايبخل بجهد مهما كانت مشقته, ولايمل البحث وإن طالت دروبه وعظمت معاناته, يمارسه بذاته لاتغنيه عنه حصيلة مايقدم إليه من مساعديه رغم وفرتها, وعنايته الفائقة بالإحاطة بها عن بصر وبصيرة والاجتهاد في دراستها, وتلك كانت طبيعته لم تتغير بمر السنين, ولابتقدم العمر, دون أن يعتريه وهن أو يصيبه ملل. لقد كان المستشار فاروق سيف النصر سليل أسرة عريقة تمتد جذورها العميقة في أرض طيبة لإحدي محافظات صعيد مصر, التي شهدت جانبا مهما من الحضارة الفرعونية القديمة, فتجلت فيه عظمة الأجداد وابداع القدماء, وحكمة الحكماء, وكان له علي منصة القضاء صيت ذائع, وفكر قانوني رائع, واجتهاد رشيد ولغة قضائية رصينة كانت جميعها سمات أحكامه وبحوثه واجتهاداته, ظلت تلازم ممارسته لرسالته السامية في المحاكم علي اختشلاف درجاتها. ولم يكن القضاء وحده ميدان العطاء الفياض للمستشار فاروق سيف النصر, فقد خاض وباقتدار ميدانا آخر لاينفصم عن رسالة القضاء, لأنه وسيلته لإقامة العدل, وأداته لتحقيق الترضية, وترسيخ قواعد الإنصاف, ذلك هو التشريع الذي ينهض القضاء بتطبيقه, ويتوقف علي جودته ورشده ودقة صياغته مقدار مايتمتع به المجتمع من استقرار, ومايسود فيه من عدل, وما يتحقق من ضبط وصون للمصالح وحماية للحقوق. لقد تفطن الراحل الجليل لأهمية الترقي بالتشريع وتحديثه وتطويره فأولاه من عظيم عنايته, وصبابة فكرة, وفائق متابعته وجهده, ما ارتفع به أداء إدارة التشريع إلي عنان السماء إبان توليه وزارة العدل, وخلال سنوات ثماني شرفت فيها باختياره لي مساعدا له لشئون التشريع فنهلت من غزير علمه وفيض خبرته, وثاقب بصره وبصيرته, ما أعانني علي النهوض بمسئولية تلك الإدارة حتي أصبحت ميدانا لصناعة التشريع يجري فيه إعداد ومراجعة مشروعات القوانين لسائر الوزارات والجهات العامة علي صعيد مصر كلها وتحت إشرافه المباشر ومتابعته الدءوبة أنجزت العشرات من مشروعات القوانين المهمة.. لم يتخلف الراحل العظيم عن حضور جلسات مجلسي الشعب والشوري ولجانهما أثناء مناقشتها, جميعا, وعن الإعداد الرفيع للبيانات البليغة في مقام إيضاح فلسفتها ومراميها وتجلية كل غامض من معانيها, وإبداء الرأي فيما يقدم من اقتراحات في شأنها, وقد كان يحظي من الجميع باحترام عظيم وبتقدير كبير مهما اختلفت الرؤي أو تعددت الاجتهادات, ويملك قدرة فائقة علي البيان والإقناع يقدر نواب الشعب حق قدرهم ويحسن الاستماع لآرائهم, يوليها حقها من الدراسة والتمحيص, والمواجهة والبيان ضاربا أروع المثل في حسن العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولم يكن الراحل العظيم قاضيا شامخا, أو مشرعا عالما أو وزيرا عبقريا فحسب, بل كان نسيجا وحده في مناقبه الإنسانية النبيلة, يحمل لزملائه وأبنائه من رجال القضاء مشاعر رقيقة, ويشعر نحوهم بحب جارف, يقدر رسالتهم السامية حق قدرها, ويرعي شئونهم ويرفع معاناتهم, يشاركهم أفراحهم, ويعود مرضاهم, يسعي إليهم لزيارتهم في مقار علاجهم يوم الجمعة من كل أسبوع دون انقطاع, يتودد إليهم بالمحبة, ولايدخر جهدا لتحسين أحوالهم ورفع المعاناة عنهم, عن يقين بجلال رسالتهم وبحقهم في توفير حياة هادئة كريمة تعينهم علي نشر العدل وترسيخ دعائمه وهو غاية الغايات. إن مناقب الراحل الجليل تستعصي علي الإحصاء. وصفاته النادرة المبهرة تتأبي علي الحصر, وخسارة مصر بفقده عظيمة, ومصاب القضاء برحيله جلل, رحمه الله رحمة واسعة, وجزاه بقدر ماقدم لأمته وأخلص في النهوض برسالته وإنا لله وإنا إليه راجعون.