قبل مباراة النادي الأهلي ونادي حرس الحدود في نهائي كأس مصر كانت النغمة الذائعة بين كثرة من المعلقين الرياضيين هي التباكي علي الحكام المصريين الذين تم استبعادهم من المباراة لصالح طقم حكام ألماني كان في القاهرة علي سبيل الصدفة انتظارا لمباراة أخري لم تتم. والحقيقة أن التقريع للاتحاد المصري لكرة القدم كان قاسيا, كما أن النغمة الوطنية كانت للحق عالية حيث كانت المناداة صارخة بضرورة الثقة في الذات, والمطالبة بأن يأخذ الحكام المصريون دورهم التاريخي والمقدس والسيادي في تحكيم المباريات المصرية. وما أن بدأت المباراة المثيرة, ودخلت الأحكام في دائرة الالتباس والخلط, حتي أخذ تعليق المعلقين مسارا آخر خاصة عندما بدت ضربات الجزاء محتملة, ولا يدري أحد عما إذا كان ممكنا للكاميرات كشفها أم لا, وفي لحظة من لحظات الصدق حمد واحد من المعلقين ربه أن في الملعب جماعة من الحكام الأجانب الذين لا يمكن اتهامهم بالانحياز. ومضت المباراة الممتعة بسلام, وفاز صاحب الحق والحظ بالكأس العظمي, وحزن بعضنا, وفرح البعض الآخر, ولكن الجميع صفقوا في النهاية وبدأوا الاستعداد لمباريات جديدة. وحتي لا يحزن أحد من الأصدقاء المعلقين الرياضيين فإنه لا توجد نية هنا مطلقا لتحليل المباراة النهائية لكأس مصر, ولكن مثالها حال فيما تعلق بانتخابات مجلس الشوري, حيث انتهت الانتخابات وسط الاتهامات ذاتها التي تجري كل مرة بالتزوير, أو الأقوال التي تقال كل مرة أيضا بحدوث تجاوزات محتملة; وعما قريب سوف تصدر تقارير جمعيات مدنية شتي تلقي بالأحكام يمينا ويسارا, وبعدها مباشرة سيكون الاتهام لها بإجراء عمليات التقييم بأموال أجنبية بما يكفي لإلقاء ظلال كثيرة علي أحكامها لأن الأموال لا تعطي من أجل سواد العيون, وإنما لأغراض سياسية وإستراتيجية لا تخفي علي أحد, أو هكذا يقال. كل ذلك من أول القصة إلي آخرها فيه ما يكفي من القلق لأنه صدقت تماما تنبؤات المعلقين الرياضيين, فالمباراة السياسية, وقد جرت تحت نظر حكام محليين, ودون توفر تراث كاف من الثقة في النظام الانتخابي, أنتجت في النهاية ما يكفي لكثير من الشكوك والهواجس. كل ذلك القلق يصبح مزعجا في نتائجه السياسية مع حالة متنامية للحراك السياسي لم تشهدها مصر منذ زمن بعيد; فما سبق من مشاهد ليس جديدا بالمرة, واعتدنا علي أن يكون موجودا في كل موسم انتخابي, وكان الحديث بشأنه لا يزيد علي أيام قليلة. ولكن في هذه المرة الموسم السياسي طويل, إذ يمتد حتي انتهاء الانتخابات الرئاسية, ومصر لم تعد علي حالها التي كانت عليها. وإذا كانت الطبقة الوسطي المصرية قد اتسعت بالفعل كما يقول الحزب الوطني الديمقراطي, وأنا فيه ومعه في وجهة النظر هذه, فإن هذه الطبقة هي منبت القلق وعدم الرضا في المجتمع بقدر ما هي أساس الاستقرار والتقدم في الدولة, وهي, من ثم, التي تجعل الحراك السياسي أكثر سخونة وسرعة من أي وقت مضي, وما كان مقبولا, أو يمكن التعايش معه في الماضي, لم يعد ممكنا القبول به أو التعايش معه في الوقت الحالي. ولكن أيا كان مدي القلق علي نتائج الانتخابات, فإن ما هو مقلق أكثر ناجم عن ذلك الفوز الكاسح للحزب الوطني الديمقراطي بنسبة بلغت أكثر من90% من المقاعد المنتخبة لمجلس الشوري. وقد يبدو ذلك غريبا من عضو في الحزب الفائز أن يشعر بالقلق علي فوز كاسح للحزب الذي ينتمي إليه, ولكن مبادئ الحزب تقول بوضوح, أن الولاء يكون لما يحافظ علي الوطن واستقراره. وهنا فإن أسس النظرية الديمقراطية, وتاريخ الدول الديمقراطية, يجعل هذا الفوز الكاسح ليس تعبيرا فقط عن وجود درجة عالية من التأييد لسياسات الحزب, ولكن أيضا تعبيرا عن خلل في النظام السياسي. وكانت تلك هي الحال عندما كان الحزب الثوري الدستوري هو المهيمن علي الساحة السياسية في المكسيك, بل إن كثيرا من الديمقراطيين في العالم ظلوا يشككون في أصالة الديمقراطية الهندية بينما حزب المؤتمر الهندي هو الحزب الفائز دائما باكتساح في الانتخابات الهندية وتحت قيادة أسرة سياسية تاريخية واحدة. وأكثر من ذلك فإن جماعة غير قليلة من المفكرين الديمقراطيين وجدوا أن سطوة حزبين رئيسيين يتبادلان السلطة في الدول الأنجلو سكسونية تسبب جروحا حقيقية للفكرة الديمقراطية لأن الحزبين كثيرا ما يصبحان وكأنهما حزب واحد يتبادل السلطة بين جناحيه في اليمين واليسار. ولكن ما يدعو إلي القلق من نتائج انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشوري يوجد ما هو أكثر منه في الساحة السياسية, وعندما ظهرت صورة الدكتور محمد البرادعي جالسا تحت السيوف المشهرة لجماعة الإخوان المسلمين اندفعت إلي الذهن ذكريات تاريخية مفزعة عن جماعات وشخصيات ليبرالية وديمقراطية رمت بنفسها في أحضان أحزاب فاشية ومستبدة لأنها لم تعد تتحمل الضجيج, وأحيانا الفوضي, السائدة بين جماعات ليبرالية ويسارية أخري, أو لأنها تستعجل التغيير, أي تغيير وكفي. ولا يحتاج الأمر إلا الرجوع إلي تاريخ جمهورية فيمار الألمانية التي أخرجت من رحمها الديمقراطي التجربة النازية كلها, وربما كان الأقرب تاريخيا ما جري للقوي الليبرالية والديمقراطية الإيرانية التي صدقت ما صدقه الدكتور البرادعي من أن الإخوان المسلمين يريدون حقا دولة مدنية وديمقراطية. مثل هذا القلق يزيد أكثر عندما يختلط الحابل بالنابل في النظام السياسي إلي الدرجة التي يتم فيها الخلط والتداخل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية. ومن ناحيتي, حتي تكون الأمور واضحة, فقد كنت, ومازلت, من المطالبين باستقلال القضاء, كما كنت, ومازلت, مطالبا بتخفيف سطوة وهيمنة السلطة التنفيذية علي الحكم في أي تعديلات أو تغييرات دستورية مقبلة. ولكن الواقع السياسي الآن في مصر يشهد تجاوزات شديدة من جانب السلطة القضائية بحيث تجعلها تتدخل في أعمال هي من صميم أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية. وفي كل أنحاء العالم فإن القضاء يحتاج أكثر درجات الشفافية والوضوح, ولكن في بلادنا لم يجد مشكلة في النقاب والقناع علي وجوه شخصيات مجهولة في أماكن العمل والدراسة. ولم يحدث في بلاد ديمقراطية أخري أن تدخلت السلطة القضائية لكي تحدد الحد الأدني للأجور, أو تصدر الأحكام بصدد تحديد أسعار في اتفاقيات اقتصادية تعقدها سلطات الدولة. وفي كل أنحاء العالم الديمقراطي والقائم علي فصل السلطات, فإن السلطة القضائية يسري عليها ما يسري علي بقية السلطات من ضرورات الحساسية المطلقة لأوضاع الدولة وتاريخها وتركيبتها الدينية والاثنية بحيث لا يكون الانتصار للقانون سببا لتقويض الأسس والتفاهمات الكبري التي قامت عليها الدولة من الأساس. وفي مصر خاصة, ومنذ قيام الدولة المصرية, فإن الحساسية كانت فائقة لما يخص قوانين الأحوال الشخصية سواء كانت للمسلمين أو المسيحيين, وفي عهد الملكية أو زمن الجمهورية, وفي الحالتين كانت المواطنة تعني ما يحقق للفرد السلامة الروحية والنفسية في الأمور الشخصية بحيث يترك له حق الاختيار ما بين زواج ديني أو مدني, وفي كليهما مسئولية اجتماعية وشخصية. وما حدث خلال الفترة القصيرة الماضية يبعث علي قلق عميق ليس فقط عندما تنتفي الحساسية للأوضاع التاريخية, وإنما أيضا لاندفاع الإعلام للعبث بقضية لا ينفع معها إلا الحصافة والتروي والمعالجة العاقلة, وكان ممكنا تجنبها لو أن السلطة القضائية كانت أكثر تقديرا للواقع السياسي المصري. والحقيقة أنه منذ جري إعطاء القضاء حق الإشراف علي الانتخابات العامة في عام2000 حتي تم الإلغاء الجزئي لذلك عام2007 مع التعديلات الدستورية, فإن تسييس السلطة القضائية جري بغير توقف. ولم يكن ذلك, للحق, راجعا فقط للسلطة القضائية, بل كان راجعا إلي وجود أوضاع مقلوبة أعطت القضاة حق مراقبة الانتخابات, وهي من صميم أعمال السلطة التنفيذية في معظم بلاد العالم الديمقراطي, بينما حرمتها من حق الحكم علي سلامة أو بطلان هذه الانتخابات, وهو من صميم أعمال السلطة القضائية في كل الديمقراطيات. ومع كل الاحترام والتقدير والامتثال والخضوع للسلطة القضائية وأحكامها, ولقضاء مصر العادل بجميع أشكاله, فإن في كل ذلك ما يكفي من القلق, ويدعو إلي ضرورة التفكير في البحث عن سبل للتعامل مع أوضاع معقدة, وهو تفكير يجب أن يأتي من الحزب الوطني, كما يأتي من جانب الأحزاب الأخري, ومن المفكرين والحكماء في السلطة القضائية, كما يأتي من المفكرين والحكماء في السلطتين التنفيذية والتشريعية. وكثيرا ما يقال إن مصر تقف في مفترق طرق, ويبدو أن الدول دائما ما تكون واقعة في هذا المفترق حيث يسود الاختيار بين مسارات صعبة. وفي هذه الفترة فإن الصعوبة ليست أقل من سابقتها, وربما تكون أكثر قليلا أو كثيرا, ولكنها كلها تمس أوتارا حساسة, ومن يظن أن الحراك السياسي يعني أمرا نفخر به وكفي فإنه لا يعلم معني الحراك حيث تمور وتفور في الدولة والمجتمع أوضاع اجتماعية وسياسية كانت مستقرة. ومن يظن أيضا أن اللعب بالنار فيه دلالة علي المهارة لا يعرف أن أعظم الحرائق يأتي من مستصغر الشرر; وقد تغيرت أمم كبري وصغري لأن النخبة فيها عجزت عن تقدير الأمور. وفي النهاية ربما يكون قلقي مبالغا فيه, أو أن الصواب لا يوجد في الأمثلة التي ذكرتها ولكن في علامات ومؤشرات أخري تجعل البال هادئا أو مطمئنا, ولكنه قلق الحريص والغيور علي وطن يحبه ويتمني له الوصول إلي ذري عالية من التقدم والازدهار. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد