كان صادق ابن عمي الأكبر محمد عكاشة من ألمع شخصيات طفولتي المبكرة طوال عقد الأربعينيات من القرن العشرين, ورث أبوه عن جدي ثلاثة أفدنة, وبعد موته عقب جدي بأشهر قليلة تم توزيع الأفدنة الثلاثة علي إخوة وأخوات من زيجات متعددة, فنال صادق منها نصف فدان. لكنه لم يكن له في الفلاحة فترك نصف الفدان لأخيه الشقيق طاهر يزرعه ويفلحه لقاء النصف من كل محصول. غير أنه طوال عمره لم يحدث علي الاطلاق أن تقاضي مليما واحدا أو أي شيء من محصول نصف الفدان. وذلك بسبب ارتحالاته التي لا تنتهي الا لتبدأ بعد وقت يقصر أو يطول. وفي كل عودة من كل رحلة تشهد مندرتنا حوارا غاية في الطرافة بينه وبين أخيه طاهر في حضور علية القوم, اعتمادا علي أن أبي وهو أصغر إخوته الذين رحلوا جميعا فأصبح كبير الدار مع أن أولاد إخوته فيهم من هو أكبر منه سنا سوف ينتصف له من أخيه طاهر, في حين أن أبي والحضور جميعا ومن بينهم صادق وأخوه طاهر يعلمون بادئ وذي بدء وعن يقين أن المشكلة غير قابلة للحل, بل لعلها في أنظارهم ليست بمشكلة من الأساس. مع ذلك لا تمر ليلة الا ويعاد طرح المشكلة واسمعوا ياناس من صادق أو من طاهر, أو ربما من أحد الحضور العابثين دائمي البحث عن نكتة جديدة أو حدث عارض يصنعونها منه, ولكن فيما كانت رحلات صادق التي تطول أحيانا إلي ثلاثة أشهر؟.. رحلاته كانت ارتحالات عاشق مدنف. لقد وقع في هوي محبوب اسمه السيرة الهلالية. قصة الحب تلك بدأت وهو صبي في الخامسة عشرة من عمره في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين, حينما كانت مندرتنا في أوج تألقها والعائلة مكتملة في رغد من العيش, تستضيف مشاهير الصييتة وقارئي القرآن. وكان من ضيوفها الدائمين واحد من شعراء الرباب اسمه حامد ندا, كان حسن الصوت قوي الحنجرة كصالح عبد الحي ومحمد عبد المطلب, وكان متخصصا في السيرة الهلالية بالرواية الشفاهية السردية يتخللها نظم شعري متدفق. يصفه أبي بأنه كان موهوبا في التمثيل كيوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار, ليس يحكي فحسب بل يتكلم بلهجات الشخصيات ويتقمص حالاتها الانفعالية والسلوكية, فالفارس فارس والبربري بربري والخادم خادم. كل ذلك دون أن تتوقف الرباب عن نثر لمرطشات نغمية بهيجة ومخيفة أحيانا كموسيقي تصويرية لما يرويه سردا تمثيليا, تجاوبه من خلفه بطانة من ثلاثة عازفين علي الرباب إضافة إلي طبلة( دربكة) ورق وناي, وهم في نفس الوقت ذوو أصوات حسنة يرددون خلفه الترجيعات, وعندما يسخن وتنشد الأوتار تعتري الكون كله حالة رقص بهيج, وتتحول كل النفوس يقول أبي إلي حالة من الشفافية كأنهم جميعا أسراب حمام يتأهب للطيران بين لحظة وأخري, وعلي يد حامد ندا تتلمذ الكثيرون ومنهم سيد حواس وسيد فرج السيد وغيرهما, وهذان فقط حظيا بالشهرة لأن حظهما المحدود وضعهما أمام الراديو في بداية بثه الرسمي وهما بعد في ريعان الشباب. صادق ابن عمي كما دون في ذاكرة العائلة وأدبياتها لبد في قفا الريس حامد ندا. كان سريع الحفظ والترديد لما يحفظ. وذات ليلة كان منوطا به أن يصب الماء من الإبريق النحاس علي يدي الريس ندا بعد تناوله العشاء. فضبط له الطشت وقدم له الصابونة وأقعي أمامه يصب الماء في بطء وروية فيما أخذ صوته يترنم بما حفظه من ألحان الهلالية. دهش الرجل من حساسة أذنه الموسيقية ومن جمال صوته لدرجة أنه انتهي من غسل يديه وبقي مقعيا يتمايل برأسه في نشوة مع غناء صادق. ثم هب واقفا يسحب الفوطة من يد صادق هاتفا: الولد ده موهوب! الولد خسارة... باسم الله ما شاء الله! تشتغل معايا يا ولد؟. الواقع أنه لم ينطق بحرف, إنما الذي أجاب في الحال هو جموع الحاضرين في المندرة حيث هتفوا جميعا في نفس واحد: يشتغل! كأنهم كانوا علي اتفاق, وكأنه عروس بائرة جاءها عريس الغفلة, حيث أضاف بعضهم: خده معاك من الليلة. اعتبرها صادق مزحة, لكن الرجل سحبه من يده وأجلسه بين بطانته قائلا في حسم: غدا تتعلم العزف علي الرباب. فإذا به يفاجأ بصادق يقول: أنا تعلمته بالفعل! كيف؟ ومتي وأين؟ علي يد من؟ كل ذلك رد عليه صادق بجملة واحدة: كنت أصنع من نسائر البوص ربابا بوتر واحد, وقوسا, وللرباب صندوق من ورق علب السجاير السميك ألعب فيه بالتقصير واللصق حتي يصير محكما لا يدخله الهواء, وأعزف عليه هكذا.. عن إذن الريس.. وأخذ منه الرباب وصار يعزف كأي محترف لا ينقصه إلا المران وتنعيم الأصابع, عزف ألحانا شائعة, آنذاك مثل: طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة. عندئذ هتف الرجل: وديني وما أعبد ما أنا سايبك! أنت لقطة نادرة. وهذا ما قد حدث بالفعل.. تكفل الرجل بإيوائه في منزله في مدينة دسوق, وبأكله وشربه وكسوته ضمن عياله, وربنا يرزقنا برزقه. في العادة يمكث مثل هذا الضيف من ثلاثة إلي أربعة أيام قد تمتد أحيانا إلي أسبوع. فالمشوار سفر بالركايب إلي بلدة شباس الشهداء مسيرة عشرة كيلو مترات من بلدتنا. ومنها يركب الضيف القطار إلي مدينة دسوق.بعد حوالي شهر جاء صادق ليقضي عيد الفطر في وسطنا فإذا هو رجل محترم مرفه نظيف علي الدوام وفي جيبه نقود يوزع منها علي عيال أخيه وعيال الدار كلهم, ويشتري البط والدجاج والحمام لتطبخ زوج أخيه ويأكل العيال. وحين أتي الريس حامد ندا في العام التالي في زيارة لمندرتنا بمناسبة عودة عمي محمود من الحجاز كان صادق هو المساعد الأول للريس حامد, يبدأ هو الحفل بغناء بعض المواويل الحمراء, فيهييء المستمعين من ناحية ويسخن الفرقة من ناحية ثانية ليبدأ الريس حامد وصلته والجميع في حالة انسجام كامل. وعلمنا أنه ينال نسبة محترمة من الإكراميات والنقوط الذي ينهال علي الفرقة طوال السهرة لتحميسها وبث الحيوية فيها. عشر سنوات كاملة وصادق ابن عمي يرافق الريس حامد ندا في جميع سهراته في جميع أنحاء بلاد الدلتا. أصبحت زياراته لبلدتنا أشبه بعيد تظهر آثاره في دارنا وفي شارع العكايشة كله ممثلة في أكياس حب العزيز اللطيفة المصنوعة من الخوص الملون معبأة بذلك الحب البناتي اللذيذ الطعم تقرشه الأسنان بسهولة وشهية. ويتم توزيع أحفنة من الحمص وقبضات من الحلوي الصلبة علي جميع بيوت العائلة. لكن ذلك العيد لم يدم طويلا. فقد صحونا ذات يوم وعمري آنذاك تسع سنوات علي تليغراف جاء به مخصوص من مكتب شباس الشهداء يبلغ أبي الذي لم يبق سواه من أبناء جدي أن الريس حامد ندا تعيش أنت. فسافر وفد من أبناء عمومتي يتقدمهم أبي حيث قدموا واجب العزاء ثم إنهم عادوا ومعهم صادق الذي جاء مصطحبا ربابته الخاصة التي كان يعتز بها ويدللها ويزينها بزخارف وينيمها في علبة خشبية مبطنة بالقطيفة صنعها النجار تحت إشرافه وكتب عليها اسمه وإسمها, لقد أخفاها: الجازية. ويبدو أنه كان مغرما بشخصية الجازية دون شخصيات الهلالية لسبب لا يعرفه إلا هو. وفي ذكري الأربعين كانت مدخراته قد نفدت إلا قروشا قليلة سجنها في محفظته ليستعين بها علي السفر. وبالفعل سافر إلي دسوق واتفق مع فرقة الريس حامد ندا علي أن تعمل معه, وأن تظل تحمل اسم فرقة الريس حامد ندا خادم السيرة الهلالية. ولقيت الفرقة نجاحا لمدة عام وبعض عام كان صادق خلالها يبيت في لوكاندة يني ليلا, وفي النهار يقلب رزقه كبائع في محل عطارة كبير شهير, لأن الحفلات لم تكن تأتي إلا كل حين إن طال أو قصر يبقي محصولها قليلا لا يقيم الأود. أما لماذا اختار محل العطارة بالذات ليشتغل فيه بائعا فالسبب يرجع إلي زمن كان فيه يروح المدرسة الأولية حيث خلبته مكتبة أخيه غير الشقيق علي ابن عمي محمد عكاشة حامل عالمية الأزهر الشريف وكانت مكتبة حافلة أنيقة تحتل غرفة بأكملها في دواليب ذات أبواب زجاجية, فكان أسبق مني في الانبهار بها والتقليب في كتبها والتطوع بمساعدة الشيخ علي في الإتيان بالكتاب الفلاني من الرف الفلاني. وقد عثر في قاع أحد الدواليب علي ملازم مطبوعة طبعة بدائية علي ورقة أصغر من كتاب لعله[ الحاوي في الطب المداوي] لأبي بكر الرازي أو شيء من هذا القبيل, المهم أنه منذ ذلك الوقت بدأ يهتم بالأعشاب والنباتات العطرية باعتبارها تتضمن في تكوينها الإلهي سر الحياة والموت. حسنا فعل بانتمائه لمهنة العطارة. ذلك أن عقد الخمسينيات من القرن العشرين كان بداية استقرار جهاز الراديو في بيوت أعيان القري ومقاهي المدن ومحلاتها, فأصبح الراديو مصدر التسلية والثقافة معا, فبدأ الكساد يغزو مهنة الحكواتي وشاعر الرباب, وكلاهما كان له مقعد ثابت في كبريات المقاهي فضلا عن السهرات الخاصة التي يقيمها الأهالي في بيوت وسرادقات. شيئا فشيئا بدأ كل ذلك ينقرض, ولكنه قبل أن ينقرض تماما كان صادق بن عمي قد أصبح عطارا مستقلا, يحمل خرجا ملآنا بأصنافها علي كتفيه يجول به بائعا سريحا في القري والكفور البعيدة.