عرفت مصر في تاريخها القديم17 عاصمة كانت آخرها مدينة الاسكندرية التي أسسها الاسكندر الأكبر في331 ق.م. ثم اتخذها مؤسس الأسرة البطلمية الحاكمة عاصمة لملكه في مصر عام305 ق.م, وظلت المدينة الأولي في مصر قرابة ألف عام انتهت لدي الفتح العربي في642 ميلادية. وقد كانت شخصية الاسكندرية في تلك الفترة مثار خلاف بين المؤرخين. غير أن صفة معينة تبرز من بين الصفات التي اتسمت بها هذه الشخصية, وهي صفة الصمود الذي لايعرف التراجع من جانب السكندريين إزاء أصحاب السلطة إذا أقدم هؤلاء الأخيرون علي تصرف يمس بالسوء مصلحة مدينتهم. وفي هذا السياق فإن عددا من المهتمين بهذه القضية حاولوا أن يفسروا هذه الصفة تفسيرا عنصريا علي أساس أنها امتداد لصفة اليونان من بين سكان المدينة القديمة, معتمدين في ذلك علي استنتاج مما ذكره مؤرخ يوناني في تلك الفترة( القرن الثاني ق.م) ورد فيه أن هؤلاء اليونان كانوا يبغضون هذه السلطة وينفرون منها. غير أن هذا الاستنتاج, ومن ثم هذا التفسير, لايلبث أن يفقد أساسه إذا عرفنا أن المؤرخ المذكور ذاته وصف موقف المصريين المقيمين بالمدينة بنفس الصفة التي أطلقها علي اليونان هناك. علي أن في مقدورنا أن نتوصل الي التعرف علي الشخصية قيد الحديث, إذا نظرنا إلي المسألة من منظور البيئة التي أحاطت بها وتداخلت معها, بما لهذه البيئة من أبعاد: مكانا وزمانا وبشرا. وفيما يخص أول هذه الأبعاد فإن المكان الذي شغلته تلك المدينة يقع علي مسافة لابأس بها من الأرض الزراعية التي تشكل التكوين الأساسي لمصر, وهي مسافة تجعل في مقدور سكان الاسكندرية أن يحصلوا علي أساسياتهم المعيشية من هذه المنطقة دون أن ينخرطوا, بالضرورة, ضمن العمال الزراعيين الذين كانوا يعملون في أرض الدولة أو أرض المعابد, ومن ثم يدخلون في دائرة التبعية المركزية الحكومية أو الدينية. وقد أتاح هذا الوضع للسكندريين احتراف التجارة كمورد اقتصادي مستقل, مع شواطئ البحر المتوسط, وهو أمر أدي بدوره إلي تزويد السكندريين بالشخصية المستقلة عموما. وقد جاء البعد الزماني أو التاريخي للبيئة السكندرية ليسهم في تأكيد هذه الصفة. وهنا نجد أن وضع المدينة, كعاصمة وميناء في الوقت ذاته, أتاح للسكندريين أن يشهدوا لحظات ومواقف تاريخية فاصلة, أكثر من غيرهم من سكان مصر, ومن ثم جعلهم أكثر منهم تيقظا وحذرا, بل وتوجسا في بعض الأحيان. والأمثلة علي هذه الأحداث والمواقف عديدة, وربما كان من أبرزها هجوم القائد والسياسي الروماني أوكتافيانوس علي الاسكندرية ليستولي عليها هو وجنوده(30 ق.م), علي عهد كليوباترة, كأول خطوة علي طريق الاحتلال الروماني لمصر, ومن ثم تغيير هويتها من دولة مستقلة ذات سيادة إلي ولاية من ولايات الامبراطورة الرومانية. ثم نأتي إلي البعد الثالث للشخصية السكندرية القديمة, وهو البعد البشري الذي يتمثل في التعامل والتفاعل بين سكان الاسكندرية, وأهم هؤلاء وأكثرهم عددا هم المصريون واليونانيون. وقد كان هناك عدد من مجالات التعامل بين هاتين الفئتين أدي في مجموعه إلي قدر كبير من التجانس والتكامل بينهما. وأول هذه المجالات هو التعامل المهني. وفي هذا الصدد نجد أن اليونان الذين وفدوا إلي الاسكندرية كان توجههم إلي التجارة في المقام الأول, وكان يقابلهم لدي المصريين عدد كبير من الحرفيين الذين أجادوا حرفيتهم منذ العصر الفرعوني وهكذا يتكامل الصانع والتاجر الذي يروج سلعته. والمجال الثاني الذي ظهر فيه التعامل والتكامل المذكوران هو المجال الثقافي. وهنا نجد توجها متزايدا من جانب كل من الطرفين للتعرف علي لغة الطرف الآخر ولاستخدامها كلما دعت الحاجة أو المناسبة إلي ذلك. كذلك نجد شيوعا بين اليونان للعبادات المصرية, وعلي وجه التخصيص عقيدة المعبودة إيزيس, وعقيدة المعبود سرابيس كبير الآلهة في مصر علي عهد البطالمة والذي كان يجمع بين الملامح المصرية والملامح اليونانية. أما ثالث المجالات المذكورة فهو مجال العلاقات الاجتماعية. وهنا نجد أن هذه العلاقات كانت تقوم في بداية الأمر علي أساس عنصري ينقسم فيه مجموع الأفراد من خلال انتمائهم إلي الفئة المصرية أو الفئة اليونانية, ولكن هذه العلاقات مالبثت بعد أقل من قرن واحد من الزمان أن أخذت تقوم علي أساس من الدخل أو الثروة, حيث ينتمي الأفراد بشكل رئيسي إلي طبقتين هما الأغنياء والفقراء, ليصبح هذا الانتماء الطبقي هو القاعدة التي تجب ماعداها في إطار الشخصية السكندرية.