لا يحتاج الأمر الي بيان من هي الدولة المارقة في الشرق الأوسط.. هي تلك التي تعتقد أنها صاحبة حق إلهي في أن تفعل ما تشاء.. فلا تأبه بأحكام القانون ولا بقرارات تصدر عن مجلس الأمن أو الجمعية العمومية للأمم المتحدة. أو بفتوي تصدر عن محكمة العدل الدولية, أو تقرير يصدره القاضي جولدستون, هي تفعل ما تشاء وفي أي وقت تشاء... تحتل أراضي دول أخري وتقيم فيها المستوطنات, وتعلن الحصار في البر والبحر والجو علي أكثر من مليون ونصف المليون مواطن فلسطيني في قطاع غزة... وتفتك بقيادات الشعب الفلسطيني وتقتلهم عيانا جهارا واحدا بعد الآخر وهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي يسمح لها بامتلاك الأسلحة النووية والتي تتمتع بالحصانة ضد أي محاولة تستهدف الضغط عليها للانضمام الي معاهدة منع انتشار هذه الأسلحة.. هكذا تعيش هذه الدولة, وهي تشعر بأنها فوق القانون بل وان من حقها أن تكون فوق القانون.. فكانت هذه الجريمة البشعة التي ارتكبتها في عرض البحر ضد قافلة الحرية التي ضمت رجالا ونساء مدنيين يحملون الأغذية والأدوية لأهل غزة المحاصرة.. فأرسلت إليهم السفن والمروحيات الحربية المحملة بالقوات العسكرية المسلحة فكانت هذه المذبحة التي قتل فيها تسعة عشر شهيدا وجرح العشرات من مختلف الجنسيات. خلال الأعوام الخمسة الأخيرة, شنت الدولة المارقة حربا ضد لبنان.. وبعدها بعامين شنت حربا ضد غزة.. وهي تعد الآن لإدخال المنطقة كلها في حرب علي إيران.. نحن أمام دولة أصبحت الحروب بالنسبة لها أسلوب حياة أو ربما أكسير الحياة!! برغم ذلك كله أي برغم كل ما تمتلكه هذه الدولة من سلاح بمختلف أنواعه بما يجعل من جيشها رابع أقوي جيش في العالم.. فإن هذه الدولة لا تشعر بالأمان.. تماما كما كان النظام العنصري في جنوب إفريقيا لا يشعر بالأمان برغم ما لديه من سلاح وعتاد.. والواقع أن الدولة المارقة تسير في نفس الطريق الذي سارت فيه حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا التي حاولت بدورها أن تحمي نفسها من مغبة سياساتها العنصرية بأن تحصل علي السلاح النووي.. وعندما حاولت أن تفعل ذلك لم تجد سوي الدولة المارقة لتبيعها هذا السلاح وهو ما أسفرت عنه الوثائق التي حصل عليها أحد الباحثين أخيرا في أرشيف الحكومة العنصرية, قبل رحيلها وتفكيك كيانها العنصري. ظلت حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا تتشبث بالحياة, لا من خلال التعايش مع جيرانها بل من خلال محاولات الهيمنة, فلم تنجح واضطرت في النهاية الي التفاوض مع ممثلي الأغلبية السوداء, وها هي جنوب إفريقيا اليوم تستعد لاستضافة كأس العالم لكرة القدم بعد أن كانت تعيش في برودة العزلة والخوف, وكراهية الشعوب وخاصة الشعوب الإفريقية, وأصبح اقتصادها أكبر اقتصاد في افريقيا, أما إسرائيل فهي ترفض أو تعوق مبادرات السلام وتصر علي سياسة الهيمنة وشن الحروب, وتتصور أنه من خلال احتلال الأراضي واقامة المستوطنات وتكديس السلاح ستستطيع أن تحصل علي الأمن وليس ذلك إلا كمن يبحث عن السراب!! وتكتسب عداوة جديدة في كل يوم, وهي تكتسب اليوم عداوة تركيا شعبا وحكومة, وعداوة الشعوب التي ينتمي إليها الرجال والنساء الذين سيروا قافلة الحرية وتحدوا الحصار. ستأتي قوافل أخري من بلاد أخري وسيتصاعد الضغط علي إسرائيل من أصدقائها لرفع الحصار.. ولن تستطيع حملات العلاقات العامة أو اللوبي اليهودي في واشنطن وغيرها أن يمنع أحرار العالم من الخروج للتعبير عن الغضب والمطالبة برفع الحصار.. وتذكرني المذبحة التي قامت بها القوات الإسرائيلية بتلك المذبحة التي قامت بها حكومة الفصل العنصري في شارب فيل في أوائل الستينيات.. كانت هذه المذبحة هي الشرارة التي أطلقت الحملة العالمية لإنهاء نظام البارتيد.. وكما خرجت الحملة العالمية المناهضة لنظام التفرقة العنصرية من رحم مذبحة شارب فيل فإن حملة عالمية لرفع الحصار عن غزة ستخرج من رحم مذبحة قافلة الحرية.. وسيكون الانتصار في هذه المعركة فصلا مهما في ردع العنصرية الإسرائيلية التي كانت تعيش أزهي عصورها وغرورها. هل كانت إسرائيل تتصور أن حربها علي لبنان عام1981 ستؤدي الي نشأة حزب الله وهل كانت تتصور أن سياستها العنصرية ضد الفلسطينيين في غزة ستؤدي في النهاية الي قيام دولة حماس, وهل كانت تتصور أن حربها علي قافلة الحرية يمكن أن تفقدها تركيا كحليف استراتيجي بعد أن فقدت إيران حليفها الاستراتيجي منذ ثلاثين عاما. ليس أمام إسرائيل من أجل بقائها سوي طريق واحد.. وهو طريق التفاهم مع جيرانها, أما طريق العنصرية والهمجية الذي سار فيه نظام جنوب إفريقيا السابق, فهو طريق مسدود والتاريخ البعيد والقريب خير شاهد وخير دليل. إن كل ما يخرج من إسرائيل ينبيء للأسف بأنها تتجه أكثر وأكثر في الاتجاه العنصري, المطالبة بأن يعترف الجميع بإسرائيل كدولة يهودية, والمطالبة بأن يؤدي العرب قسم الولاء للدولة العنصرية, وما يجري في القدس من تهويد الي غير ذلك من مظاهر تسلط الروح العنصرية والشوفينية علي النخبة الحاكمة وبالمقابل سيزداد رفض شعوب المنطقة بل شعوب العالم لهذه السياسات, وكلما استمرت إسرائيل في سياسة القوة والحروب حصدت من حروبها فشلا بعد فشل. لقد سبق للعرب أن تقدموا عام2002 بمبادرة للسلام ولم تتجاوب معها إسرائيل, واليوم تخرج الصيحات من العالم العربي للمطالبة بالتخلي عن هذه المبادرة, بل لقد أعلنت بعض الدول العربية بالفعل الانسحاب منها, وبالتالي فإن فرصة السلام أصبحت تضيق يوما بعد يوم وتفقد شرعيتها ومصداقيتها. مع ذلك, ليس أمام إسرائيل سوي طريق البحث عن السلام اذا أرادت الحفاظ علي بقائها في هذه المنطقة, أما سياسة القوة وإشعال الحروب والتي أدت الي احاطة اسرائيل اليوم ببحر من الكراهية فلن تفضي الا الي مزيد من الفشل السياسي, الناتج عن الاعتماد علي القوة وتصور أن القوة هي الطريق للبقاء. لقد انهار نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا, بينما كان هذا النظام في أوج قوته العسكرية, ولم يأت فشله علي الصعيد العسكري بل كان علي الصعيد السياسي فكانت العزلة الإقليمية والرفض العالمي. ولكن هل يستطيع حكام إسرائيل أو بالأحري النخبة الإسرائيلية الحاكمة اليوم أن تعدل المسار وتتجاوب مع متطلبات السلام العادل القائم علي مبدأ في الحقوق المتبادلة, وانني للأسف لا أري أن الجيل الحاكم في إسرائيل مالكا للرؤية ولا للشجاعة التي تتيح له أن يسلك طريق التعايش بدلا من طريق الهيمنة وغرور القوة!! وسنظل في الأغلب نشهد فصولا جديدة في المأساة, مأساة نظام يملك قوة السلاح ولكنه لا يملك قوة البصيرة, ولا شجاعة القرار.