وكأنها منحوتة نحتا فالجبال تحتويها من كل جانب تكسوها خضرة وروعة أنها مدينة ذونجولدك التركية الواقعة شمال هضبة الاناضول, والمطلة بكاملها علي البحر الأسود. منحنيات ومدرجات ومعها درج صعودا وهبوطا سلالمه تبدو لانهائية وطرق شديدة الالتواء تعج بشاحنات وتريلات ضخمة يقودها سائقون مهرة وحافلات نقل للركاب تعمل حتي منتصف الليل وسيارات خاصة يعرف اصحابها معني القيادة في تلك الشرايين الحلزونية وفي نفس الوقت كيفية التعامل مع سيول الامطار التي تهطل فجأة دون إنذار حتي مع نهايات شهر مايو أما المنازل ومعها البنايات بألوانها التي تنسجم مع الأخضرار الكثيف فهي علي الحواف متراصة بعناية وجدرانها بسيطة تنبض بحياة ساكنيها. ولأنها مدينة ساحلية فقد حدد القائمون عليها شواطئ يرتادها الجميع في شهور الصيف الشحيحة, ملمح آخر يمكن للوافد القادم للمرة الاولي أن يلاحظه في ذونجولدك هو أنه لا بذخ أوحيوات ارستقراطية فالشرائح الإجتماعية قليل منها متوسطة الحال أما كثيرها فتقع في الطبقات الدنيا وهؤلاء بالكاد يتدبرون الحد الادني من المعيشة اليومية الصعبة وهكذا فذونجولدك هي مدينة الشغيلة الكادحين وها هي الشواهد تبدأ من خلجان أستغلت كموانئ ومرافيء تمحورت انشطتها علي ما ينتزع من المناجم تستقبل سفن شحن وتودع أخري وقطارات بدورها تحمل نتاج معامل تفتيت الفحم تمر اسفل صنابير ضخمة لعل ما تسكبه من المياه يهدئ من الإنبعاثات السامة للقار الاسود. أن المناجم شكلت ومازالت طابع ذونجولدك علي مدار عقود طويلة خلت وباتت جزءا لا يتجزا من حياة البشر فيها ولأهميتها وضع في ميدانها الرئيسي نصب ضخم يجسد منجما بقضبانه الحديدية وعماله وهم يرتدون خوذاتهم التقليدية وفي يد كل منهم ما يشبه الفانوس يبدد جزءا من ظلام لا ينتهي أبدا وهنا بيت القصيد فكم من جوانب دفينة تحمل أنات ومواجع لمئات يعتمدون في معيشتهم علي العمل في ظل ظروف قاسية تحت الارض وفي اعتقادهم أنهم يحصلون علي الفتات وقد بح صوتهم من أجل ضمانات تحميهم من تداعيات إنفجار الديناميت في الاعماق لكن لا مجيب من أهل الحل والعقد المذهل هو أنه عندما تقع كارثة يهرعون إلي موقع الحدث لمساعدة المنكوبين. وهذا ما حدث في فجيعة وهو نفس التعبير باللغة التركية والتي هزت ضاحية كرادون التي تبعد عن وسط المدينة بخمسة عشرة كيلو مترا ففي مساء يوم21 الشهر الحالي وقع إنفجار مروع في عمق قدرت مسافته بنحو45 مترا ورأي السكان الملاصقون للمنجم سحابات من الدخان والاتربة تتصاعد من المصعد الضخم وسارع المواطنون وكل فرد منهم يحدوه رجاء مستحيل ألا يكون قريبه من الذين حوصروا تحت الكتل الاسمنتية المنهارة وجاءت معدات ليكتشف معها الجميع أن التكنولوجيا لا تنفع في كل الحالات والحفر التقليدي لا بديل عنه! فكيف وهل يزيل الركام الهائل من جراء الإنفجار الذي سد منافذ الحياة علي المحشورين ومرت الساعة تلو الأخري واليوم التالي جاء وانقضي دون بصيص أمل وفي اليوم الثالث ومع نهايته تأكد الخبر فالعمال البالغ عددهم30 فردا لقوا حتفهم وفرق الانقاذ أخيرا تمكنت من اخراج جثثهم. ومن جديد نكئت الجراح وطفا ملف مناجم تركيا إلي السطح وحفلت الكتابات بتحليلات مشفوعة بأرقام مخيفة فنحو12 الفا و687 عاملا بالمناجم لقوا حتفهم خلال55 سنة وها هي ذنجولدك باتت مأتما بتعبير الكاتب الصحفي' ياغوز بيادر أو مدينة الجنازات ففي العقد الاول من قرننا الحالي وتحديدا اعتبارا من السنة الثانية وحتي الثامنة لا يمر عام أو شهر إلا وهناك مأساة فعلي مدار ست سنوات فقد خمسمائة عامل حياتهم والعام2010 والذي مر منه خمسة شهور مات69 والبقية تأتي, وفي مطبوعة سيارة كانت هناك تفاصيل أكثر فظاعة فنفس الفترة شهدت48 الف حادث(47 الفا و969) ومن لم يمت فيها عاش معوقا طيلة عمره فضلا عن عشرات تأكد إصاباتهم بامراض مزمنة نتيجة عملهم بالمناجم. أن أرول وهو واحد من مئات المعاقين حكي بمرارة مأساته لقد أصيب بعاهة واحيل لعمل خفيف ليحرم بالتالي من حوافز ودخل إضافي هو وعائلته في أشد الحاجة إليه وقد حاول مخاطبة نائب دائرته لكن الأخير لم يبد أي استعداد لمساعدته. وهذا ما يفسر حالة الغضب التي واجهت رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان عندما زار المدينة ورغم أن حكومته قررت صرف عشرة الاف ليرة( سبعة الاف دولار تقريبا) كمساعدة عاجلة إلا أنها لم تنج, في المقابل كانت أسهم حزب الشعب الجمهوري القادم بقوة بعد إنتخاب زعيم جديد تزيد وسط الساخطين الذين راحوا يلتفون حوله.