حسن نور كاتب مصري مخضرم, ولد في النوبة مطلع أربعينيات القرن الماضي, ودرس في الأزهر المطور علوم الدين والتجارة معا, وعني إلي جانب القصة والرواية بأدب الطفل ولكنه ظل يختزن في ذاكرته وقلبه مواجع التهجير ورعشة الخوف من السجن حتي أطلقها بعد عقود في هذه الرواية الجديدة مدارات الجنوب التي نشرت أخيرا بروايات الهلال, واللافت للنظر أن يعيد فيها ما أصبح مكرورا ومحفوظا من ظلم تجربة تهجير النوبة بعيدا عن النيل في الستينيات, قبل غرق قراهم بمياه السد العالي, وقسوة أجهزة الأمن في مطاردة الشباب اليساري واليميني معا وتعذيبهم في السجون بدون ضرورة. والمدهش أنه يستحضر هذه الفترة بعين الشاب الذي كان يعيش وقتها طالبا في المعاهد الأزهرية مهددا بالاعتقال, مما يعني إسقاط المنظور التاريخي لأربعة عقود زمنية من حسابه. وإذا كان ذلك ضرورة فنية لتوظيف تقنية الراوي المتكلم فإنه يحرم الكاتب والقارئ معه من استقطار النتائج التي ترتبت علي هذه الأوضاع وتحولاتها في وعي الجيل نفسه, وربما كان تعدد الرواة, أو مراحل حياة الراوي المتكلم هو الذي كان كفيلا باستعارة البعد التاريخي والوعي النقدي المصاحب له, بحيث لا يقتصر علي مدي الرؤية الطازجة للأحداث وقت وقوعها فحسب, بل يمتد الي تداعياتها اللاهبة, خاصة بعد أن أصبحت حديثا مستهلكا. الخروج من الأرض والتقاليد يصيح الراوي عند رؤيته لبشائر تهجير أهل النوبة إلي القرية الصحراوية في جبل السلسلة: جاءكم الموت ياناس النوبة, يامن اعتدتم أن تفتحوا أعينكم كل صباح علي النيل وتعمدو مواليدكم في مياهه, ويذهب إليه عرسانكم في صحبة عرائسهم لينهلوا من مائه صبيحة يوم عرسهم, وتنسجوا حكاياتكم وأساطيركم عن ناسه, والآن سيخلعونكم من جذوركم ويلقونكم في الصحراء مثل الجيف. لكنكم تستأهلون لأنكم سكتم في المرات السابقة, ورضيتم بالملاليم التي كانوا يلقونها لكم كتعويض عن دوركم ونخيلكم التي ابتلعتها مياه خزان أسوان, استضعفهم فحق عليكم الإذلال هذه النبرة الثورية بأثر رجعي تدهشنا اليوم, لأنها تبعث مشاعر قد خبت وتحولت إلي رماد, ونجمت عنها حكمة جديدة تري فيما حدث صوبها تاريخا عاما اقترن بخطأ جزئي في اختيار البديل نتيجة لفقدان الإرادة البصيرة لأصحاب الشأن والمشاركة السياسية في تقرير المصير بشكل ديمقراطي. لكن الكاتب ينسج رمزا موازيا للنوبة لها يتمثل في قصة تشغل أهل القرية قبيل التهجير وتبدو في الظاهر منفصلة عن أحداثه, يقول الراوي باختصار واد عمك جاسر النور عاوز يحل خطبته من بنت عمه فضيلة ابنة عمك بحر الزين. والمشكلة أنه طلبها من أبيها منذ أن كانا صغيرين, فتكفل بها عمها وعاشت معهم في دارهم, والرجل أعلن في النجع من زمن بعيد أن ولده خطب ابنة عمه, فلم يتقدم أحد من الشباب في النجع لها, مع أن البنت جميلة وعاقلة ورزينة السبب الشاب يريد تركها ليخطب ابنة تاجر ثري أغراه بنسبه, فينعقد مجلس القرية للنظر في المسألة, ويشرح الراوي طقوس انعقاده ومناوراته التي تنتهي إلي حكم بالتعويض المادي لفضيلة وتغريم خطيبها المنسحب ألف جنيه. ولأن أهل البلد, رجالها وشيوخها قد صاروا يقيمون كل شيء بثمنه, حتي القيم التي تعتز بها القرية ماتستغربوش لما تلاقوا بكره الديابه والثعالب بترتع بينكم, لأنها خلاص عرفت دينكم هذه النبوءه بانهيار القيم نتيجة لغلبة النزعة المادية تبدو مثالية ساذجة من شاب مفتون بالتقاليد, بينما يعارضه آخرون من أبناء عمه المقيمين في القاهرة حيث يرون في سيطرة العادات القديمة إجحافا في الأجيال الجديدة في اختيار مصائرهم بحرية والخروج علي التقاليد المتوارثة, لكن الوصف الشيق لمجلس القرية وكيفية إدارة مناقشاته, مع الاتهام المبطن لأصحاب النفوذ فيه بالخضوع لرغبات الموسرين يقدم صورة نابضة للمجتمع النوبي الذي لا يختلف عن بقية البيئات المصرية. العرق السياسي يعود الراوي من القرية للعاصمة, فيجد زميله ورفيق سكنه وأفكاره قد اعتقل للمرة الثانية, ومعني ذلك أنه كان مطلوبا مثله, فكل من يرد اسمه علي لوائح السجون مرة لابد أن يكون نزيلا لها في جميع المرات, يتساءل الراوي بأثر رجعي أيضا منعشا مذاق أيام نسيتها الذاكرة الراهنة ازاي لحكم وطني زي الثورة يوصل في اختلافه مع مصريين هي تعلم تماما وطنيتهم لدرجة القبض عليهم واعتقالهم وتعذيبهم؟ شيء محير خصوصا أن من أهدافها الدفاع عن الحرية. طب إزاي؟ دا احنا اتقبض علينا لمجرد اننا اجتمعنا في الجامعة وجلدونا وصلبونا علي العروسة.. هما خدعونا بشوية شعارات كدابة من نوع ارفع رأسك يا أخي.. والله ما حد ذلنا إلا هما وإمعانا في التدليل علي تناقض هذه الاوضاع ينسج الراوي أحداثا يسعي خلالها بمعونة بواب عجوز, نوبي هو الآخر, للالتحاف بالعمل لدي أحد القيادات من الضباط الأحرار حتي يظفر بحمايته ويبعد الشبهه عن نفسه, فيلحق للعمل بائعا بمحل تحف وآثار يملكه هذا الضابط نفسه الذي يشغل منصب رئيس لجنة تصفية الإقطاع وفرض الحراسات, ويزعم أنه يري بأم عينه المنهوبات التي يسرقها ويعرضها للبيع وأحسب أن هذا النوع من التخيل السردي الساذج مجاف للواقع, فلو اكتفي بالعمل عنده في شقته الفاخرة وشاهد مقتنياتها لكان ذلك محتملا, أما أن يفتح محلا لبيع المسروقات في ظل نطام بوليسي محكم يحافظ علي مصداقيته فهذا شطط في إدانة مرحلة تتسم بالنزاهة النسبية مقارنة بمثيلاتها من مراحل النهب الأعظم, لكن الختام الذي يدخره الراوي ويغلق به دائرة الرمز الذي اطلقه في المشاهد الأولي هو الخبر الذي يقع علي مسمع جماعة النوبيين في العاصمة وقع الصاعقة, وهو أن فضيلة التي يستعد الشاب المناضل للاقتران بها تعويضا لها عن الظلم الذي أصابها قد غرقت في النيل, فيصيح أحدهم وهو يلوح بجريدة نخيل: مكتوب, مكتوب/ لاكداب ولا مجذوب/ هم اللي قتلوها, هم اللي غرقوها/ غرقوا فضيلة/ بنتنا العفيفة الكاملة/ الطاهرة الأصيلة وحينئذ يتجلي للقارئ أن يتخذ الموقف الذي يحلو له من التعاطف مع الراوي أو معاندته بأثر رجعي أيضا. المزيد من مقالات د. صلاح فضل