يذكرنا شهر فبراير باغتيال يوسف السباعي.. الأديب الذي أثري الحياة الأدبية بإبداعه وأعماله التي لا تنسي.. وكان علي المؤسسة الثقافية أن تذكره وتحتفي بذكراه.. ولكنها تنشغل بتسليط الأضواء علي من ينتمون إليها فكرا, ومصلحة.. وقربي.. وتتغافل عن هؤلاء الذين غادروا الدنيا بعد أن قاموا بدورهم خير قيام. جاء مولده في حارة الروم بالدرب الأحمر عام1917, فشب واعيا بالبيئة الشعبية ونماذجها البشرية وطقوسها السلوكية. وحمل رسالته ولم يئن بتبعتها, وقف مع هموم الناس وسجل طبائعهم, وبشر بالخلاص من الظلم وتنبأ بغد يصبح أمر الوطن فيه بيد أبنائه المخلصين. كان يوسف السباعي شخصية سهلة, منبسطة.. مرحة وفكاهية.. وكان قوي الارادة, لديه القدرة علي ابتكار الحلول والأهداف. فهو كما قال عنه المبدع الكبير ثروت أباظة.. استطاع يوسف السباعي أن يجمع بين القدرة الخلاقة علي إنشاء الفكرة, والقدرة الجبارة علي تنفيذها. وقدم إلي الحياة الثقافية عطاء وافرا غير منكور.. وأنشأ عددا من المؤسسات التي تخدم الفكر والإبداع.. كالمجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب واتحاد الكتاب, ونادي القصة ودار الأدباء ونادي القلم.. والمنظمة الإفريقية الآسيوية.. وغيرها من أماكن صناعة الثقافة, كما قام بإصدار مجلات.. القصة, والثقافة, والزهور والأدباء العرب.. وسلسلة الكتاب الذهبي, والكتاب الفضي.. وغيرها من آليات الإبداع ووسائطه. .. ورأس عددا من المؤسسات الثقافية والإعلامية.. وكان آخر منصب شغله هو وزير الثقافة والإعلام, وذلك حتي وفاته شهيدا برصاص الخيانة عام.1978 ومع هذه المهام الكبيرة فقد قدم إنتاجا إبداعيا غزيرا وعميقا.. كتب الرواية, والقصة القصيرة, والمسرحية, والمقالة الأدبية, والسياسية.. واتسم أدبه عامة برهافة الوجدان وبلذعة السخرية الكاشفة عن الخلل في المواصفات الاجتماعية والسياسية, وبالحس النقدي, وبالأداء التعبيري الجميل. ولقد عكست رواياته العديدة الحياة الشعبية وما يدور فيها.. والتقط خياله جوانب فياضة بالدفء الكامن في الذات المصرية.. ووضع يده علي جوهر المصري في صدقه وتدينه, وانتمائه لوطنه.. فهو كاتب الواقعية في أصفي توجهها, اختزن الانسان, والمكان ثم توقف عند القيم الإنسانية نافضا عنها تراب الحاجة, وصدأ الأيام. فصورت السقامات الحياة في البيئة الشعبية كما عاشها في الدرب الأحمر.. وكذلك أعماله الأخري..( بين أبوالريش وجنينة ناميش, ونابغه الميضا, ونحن لا نزرع الشوك.. وغيرها). كما شغله الإنسان في أحلامه وآماله, ومشاعره الدافئة, والقلوب وهي تتهاوي أو تتماسك.. ووشت هذه النصوص بفكر واع وخيال محترم.. وجاءت نصوصه.. بين الأطلال ورد قلبي وناديه, والعمر لحظة وغيرها لتواكب الأحداث التي عاشها المجتمع في عصره الحديث.. وما طرأ عليه من متغيرات سياسية واجتماعية, واتخذها إطارا عاما تتحرك خلاله النماذج الانسانية في تنوعها وتضادها, وبها أدار صراعه الدرامي في تقنيات فنية عالية من سرد ووصف وحوار ولغة سهلة آسرة. ويصف نجيب محفوظ هذا الجانب الفني/ التسجيلي عند السباعي فيقول: الأديب يوسف السباعي.. جبرتي العصر وهو وصف دقيق, فرواية رد قلبي تصور مجتمع ما قبل الثورة وحتي بداية ثورة1952, ورواية( طريق العودة) تسجل في شجن وطني وقومي مآساة فلسطين. كما أدار أحداث روايته( جفت الدموع) حول الحدث القومي الخاص بالوحدة بين مصر وسوريا عام.1958 كما أشارت رواية( ليل له آخر) إلي الانفصال عام..1961 وجسدت روايته ذات العبق الإنساني والزهو الوطني( العمر لحظة) لحظة الانتصار الكبير في أكتوبر.1973 من يطيعه قلبه ليغتال صاحب رواية( أرض النفاق)؟ ومن يقوي علي نسيان جرأة السباعي وهو يسطر هذه الرواية التي لو لم يكتب غيرها لكفته؟! صور الكاتب في رائعته تلك.. المجتمع الفاسد في النظام, والحكم والسلوك, والأعراف الحاكمة.. واجه الفساد, وسجل عيوب الأمة بلا خوف أو وجل, ولجأ الي السخرية والفانتازيا واشتد في النقد للحكم والسياسيين, ودعا فيها الي الطهارة والالتزام بالقيمة والوطن يقول النص( يجب أن نضع في الحكم رجالا لم تلوثهم الأيام ولم تلقنهم أصول التهريج). صدرت الرواية في مجتمع ما قبل الثورة1949 لتدين آفة النفاق والتي هي سبب رئيسي في تخلف الأمة, وبها تختفي القيم الأخلاقية النبيلة كالصدق والعفة, والموضوعية, والشفافية والاخلاص وغيرها, والعمل الصادق الصادر من وجدان حي كطلقة الرصاص كما يقول يحيي حقي يصلح لكل زمان.. لأن النفس البشرية لا تتخلي عن القيم الحقة الداعية الي الحرية والعدل والمساواة, وتنامي العلاقة بين الراعي والرعية. يدعو النص في سخرية لاذعة الي أن يصوم القادة شهرا عن الغني والترف ومظاهر الحكم, فلعهم يشعرون شعورا حقيقيا بالإنسان العادي وما يعانيه في حياته من متاعب وآلام. لقد تحمل السباعي عبء الكلمة وحملها آراءه الاصلاحية وحربه الشعواء علي مظاهر الفساد, وكتب شهادته في أهمية أن يقوم الكاتب بدوره في مساءلة الواقع وتغييره. قال أحمد حسين في دهشة بعد أن قرأ الرواية..( كيف قيل هذا الكلام بكل هذه البساطة.. وكيف طبع ونشر! لقد كان لديه من الشجاعة بل ومن الفدائية ما جعله ينشر الكتاب.. الذي لم يكن غيره لكفاه).. وتقول بنت الشاطئ عن أرض النفاق(.. فرض الكاتب نفسه علي وأنتزع استجابتي علي الرغم مني). لا يغتال مثل هذا الأديب الرائع إلا كل من هو مناهض للخير والجمال.. ثم لماذا يواجه الرجل بكل هذا التجاهل والإصرار عليه؟!