شوارع القاهرة.. دروبها.. أزقتها.. حاراتها.. لها عبق خاص يتسلل إلي وجداننا.. نلوذ به كلما ضاقت بنا الحياة نلتمس فيها قدرا من الراحة.. نستمدها من ذلك الحنين الذي يربطنا بها.. يجعلنا دائما جزءا من هذه الأمكنة كما يجعلها أيضا جزءا منا. وكثيرة هي الأعمال الأدبية التي ارتبط اسمها بأسماء لشوارع القاهرة.. أهمها زقاق المدق للكاتب الكبير نجيب محفوظ وقنديل أم هاشم ليحيي حقي.. عطفة خوخة لمحمد جلال.. وبين أبوالريش وجنينة ناميش ليوسف السباعي وقلعة الكبش للدكتور نبيل راغب.. وغيرها من الأعمال العظيمة التي لعب المكان فيها دور البطل فكان بمثابة تميمة الإلهام لهؤلاء المبدعين. حول هذه العلاقة التي تربط المبدع بالمكان يدور موضوع كتاب »الشوارع في الراوية المصرية« للكاتبة هالة فؤاد.. في أعماق شوارع القاهرة غاص نجيب محفوظ.. جاء عشقه لها واضحا جليا وبالتحديد للقاهرة الفاطمية.. ارتبط بها وسبر أغوارها والتصق بكل جزء فيها.. ترجم هذا العشق من خلال العديد من الروايات التي حملت أسماء شوارعها.. أهمها الثلاثية الشهيرة.. بين القصرين .. قصر الشوق.. السكرية.. وأيضا زقاق المدق. ولزقاق المدق تاريخ عريق ترجع نشأته إلي العصر الفاطمي وازدهر وذاع صيته في العصر المملوكي وظل علي عنفوانه حتي جاءت قوات الاحتلال الإنجليزي التي سعت لتغيير معالم هذه المنطقة التي شكلت مركزا للمقاومة ضد الاحتلال حيث خرج المناضلون والثوار لشن عملياتهم ضد قوات الاحتلال. وكان الزقاق يتميز بالجمال والرقي تزينه تهاويل الأرابيسك ولمواقع الزقاق أهمية أخري حيث يقع في قلب شوارع مهمة .. أهمها الصناديقية والسكة الجديدة. رصد نجيب محفوظ زقاق المدق بدقة مبدع قدير وبدا الزقاق كلوحة رسمتها فرشاه فنان محترف مدرب علي تحديد الصورة وتشكيل الظلال واللعب لألوان ليبدو بالفعل كما أكدت كلماته ليس مجرد زقاق عادي بل »هو تحفة من تحف العهود الغابرة تألق يوما في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري.. فهو أثر نفيس يشهد علي ذلك طريقه المبلد بصفائح الحجارة وقهوته التي تزدان جدرانها بتهاويل الأرابيسك. ومن زقاق المدق ننطلق إلي السيدة زينب والتي كانت ملهمة العديد من الأدباء.. فعنها كتب يحيي حقي قصته قنديل أم هاشم والتي ما إن يذكر إسمه حتي تذكر علي الفور وكأنها بقية اسمه وهو ماسبب له ضيقا شديدا لكنه في النهاية حاول تفسيره وأرجع ذلك إلي أن هذه القصة خرجت من قلبه مباشرة كطلقة رصاص فكان أن استقرت في قلوب الناس. . نجح يحيي حقي في نقل صورة واضحة لهذا الحي الشعبي العتيد ورصد في قصته حركة الناس فيه سواء المقيمين أو المترددين عليه، وظهرت فيها بشكل واضح سمات أهله من حيث اللغة والسلوك والمعتقدات. الفوضي في أعماق هؤلاء البسطاء كان الهدف منه كما أراد حقي هو التعرض لقضية خطيرة وهامة مازالت تؤرقنا حتي اليوم وأعني بها العلاقة التي تربط بين الشرق والغرب.. وتلك العلاقة الجدلية بين القيم الروحية والمادية.. وبين العلم والتراث بين التبعية والاستقلال .. بين التسلط والحرية.. هذه المعادلة الصعبة التي لم ينجح بطل رواية حقي الدكتور إسماعيل في فك رموزها إلا بعدما أحدث توازنا نفسيا داخله بين إيمانه بمعتقداته وارتباطه بجذوره وبين ما اكتسبه من تعليمه بفرنسا من قيم تعلي من شأن العلم وإعمال العقل فضلا عن الالتزام والجدية والتفاني في العمل. وفي السيدة زينب ودروبها أيضا تجول الكاتب الكبير يوسف السباعي.. بل كان كاتبنا الكبير دائم التجوال.. عشق شوارعها الذي بدا جليا واضحا حيث عكست مجموعته القصصية بين أبو الريش وجنينة ناميش هذا العشق للمنطقة التي شهدت صباه وملكت عقله حتي أصبحت ملهمة لإبداعاته.. فكان التجوال فيها بمثابة الدافع الذي يحثه علي الكتابة.. فما إن يتحرك خياله بإحدي الفكر وتتراءي أمام عينيه إحدي الشخصيات ويشرد ذهنه باحثا عن المكان الذي يضمها ويسكنها فيه حتي تقفز هذه الشوارع لتفرض نفسها فرضا. هذه الرابطة العميقة التي شدته للمكان جعلته يشعر أنه موطن لجميع المصريين علي حد تعبيره في مجموعته القصصية التي حملت كل قصة فيها اسما لمكان محبب إليه يقع في قلب السيدة زينب.. ومنها حارة السد، الخليج المصري، سيد العتريس، سيدي الحبيبي، زينهم، زين العابدين، البغالة، المبتديان، الناصرية . تجول السباعي في هذه الشوارع وتجول القارئ معه.. يسير في الشوارع يمينا ويسارا.. يقرئه اسماء الشوارع يلفت نظره لمقهي أو مقلة أو حانوت.. إلي بائع سريح أو طفل شارد أو مجذوب.. يسير القارئ مسرعا مع كاتبه إلا أن الأخير لايطيل التوقف كثيرا عند الملامح الجغرافية للأماكن فيمر سريعا علي أسماء الشوارع لايتوقف عند تفاصيلها وكأنها لاتعنيه.. فهدفه لاينصب علي شكل المكان بقدر ما كان تركيزه الأكبر منصبا علي إبراز روح المكان وسمات أهله.. رصد السباعي ذلك من خلال الشخصيات التي تعيش فيه والمميزة له والتي قلما نجدها في غيره. فظهرت بكل ملامحها.. أحلامها آلامها.. فلسفتها في الحياة.. ضجيجها.. صخبها.. ضحكاتها ودموعها خبثها ومكرها وتحايلها علي الحياة.. ومن السيدة زينب إلي قلعة الكبش ننتقل مع الكاتب الدكتور نبيل راغب الذي جاءت راويته »قلعة الكبش« لتلقي الضوء علي ذلك المكان التاريخي الأثير.. فكان يحمل كنوزا من الحكايات والأحداث له عبق خاص.. وفيه أيضا تكمن العديد من الأسرار حاول راغب كشفها ليظهر في عمله الروائي مدي ولعه بالمكان وإنبهاره به. هكدا كانت وستظل شوارع القاهرة ودروبها وكل شبر فيها ملهمة لكل مبدع يعشقها بصدق فتبادله عشقا بعشق أكبر وتلهمه عملا وإبداعا يخلده مثلما كانت وستظل خالدة أبدا.