أحسب أن نخبا مصرية من المثقفين والمفكرين والسياسيين يشاركون كاتب المقال الفجيعة علي ما آلت إليه أحوال وطن يعشقونه ويفخرون بتاريخه وبالقيم التي يمثلها والقامة التي يستقوون بها. وطن لأمة ملأت الدنيا نورا يوم غمرها الظلام; وأمدتها علما وعلوما يوم سادها الجهل وعمت الظلمات; وساندت العدل وقهرت الظلم وناصرت حركات التحرير والمستضعفين وأزاحت مستعمرين وحررت شعوبا, واحتضنت قادة ناضلوا الاحتلال, فكانت قلعة حق وملاذا آمنا للمضطهدين; ومنارة للعلم فتحت أبوابها لطالبيه, وأقامت مؤسسات تعليمية وصحية وتكايا, وقدمت مساعدات لغيرها في سنوات عجاف.. مصر التي شاركت باقتدار في صياغة العالم الجديد.. مصر الحضارة والتاريخ والعطاء الآن في محنة تكاد تعصف بكل شيء; مصر اليوم تصرخ مناشدة أبناءها أن أفيقوا من غيبوبة الإفراط في حب الذات ولا تهدروا موقعكم في التاريخ, وأعلوا مصالح الوطن فوق التعصب لفكر أو الانحياز لفصيل; التفوا حول أهدافكم النبيلة التي أنهيتم من أجلها عقودا من الشمولية العسكرية وانفراد الرئيس الملهم وسيطرة الحزب الواحد; خذوا حذركم من المتربصين بمصر, وهم كثير, لا يريدون خيرا لهذه الأمة. إن المشهد المصري بعد عامين, يوحي بأن تغيرا جوهريا لم يحدث, فالحزب الواحد لا يزال يسيطر علي مفاصل الدولة ومؤسساتها التشريعية ومعظم أجهزتها التنفيذية; والتزاوج بين السلطة والمال يطل برأسه; والدستور والقوانين تحاك علي نحو يؤسس لنوع جديد من التوريث, ومن ثم التقليل من فرص تداول السلطة التي تشكل الأساس الأهم في البناء الديمقراطي.. لقد حدد المصريون أهدافهم في ثلاثية ذهبية هي العدل الاجتماعي والحرية والديمقراطية.. وبعد عامين وجب التساؤل أين نحن من تلك الأهداف النبيلة؟ وهل انشغلنا عنها أو انحرفنا بها إلي أخري عميقة؟ ومع التسليم بأن تحقيق تلك الأهداف يتطلب رؤية متوافقة عليها من الجماعة الوطنية تفرز سياسات وخططا وبرامج متدرجة متتابعة ومترابطة المراحل, تؤسس كل منها علي سابقتها وتبني عليها, يساندها مناخ من الاستقرار الأمني والسياسي, فإن غياب ذلك والاستخفاف بالقانون والتجرؤ علي هيبة الدولة, واستمرار التظاهرات والتشرذم والتناطح, وغياب الحوار وتصاعد لغة الاستعلاء لدي تيار بعينه وتحصنه بالمغالبة لفرض إرادته وتغليب رؤياه, والتخبط في إدارة الأزمة, خلق في مجمله حالة من الانسحاب والتراجع انزلقت بالدولة إلي هاوية اقتصادية غير مسبوقة في المجالات كافة.. نحن أمام عامين غرق فيهما الوطن في صراعات ساهمت في اشتعالها وتعميق سعيرها المواقف الهزيلة والمتخاذلة لنخب تمركزت حول نفسها وتناطحت فيما بينها, سواء التقليدية منها التي انتهي عمرها الافتراضي وتجاوزتها طموحات الأمة ومتغيرات العصر; أو الجديد الذي قفز إلي المشهد واعتلي المنصة وأمسك بفرصة جاءته فجأة, وعلي غير ما استعداد, وفي غفلة من أصحاب المبادرة وصانعي الحدث, أو المستحدثين النشطاء الجدد الذين يفتقدون الخبرة ولا يمتلكون قواعد جماهيرية مؤثرة.. في هذا المناخ تقدم تيار الإسلام السياسي الصفوف المتقاطعة وانشغل بملء الفراغ والصعود إلي سدة الحكم, وغاصت جميع القوي والأحزاب والتحالفات في دهاليز الماضي والتفتيش في ملفاته والانشغال ببلاغات التشفي, وقضايا الانتقام وتقاسم الغنائم, والمتاجرة بأرواح الشهداء ودم المصابين. عامان يحسبان زورا في تاريخ هذا الوطن, فبدلا من تكريمهما باعتبارهما يمثلان مرحلة انتقالية فاصلة بين عهدين تشهد تحولا نوعيا حقيقيا في تاريخ الأمة نحو بناء ديمقراطي مدني معاصر والتأسيس لدولة الدستور والقانون, وإرساء قيم الحرية والعدل الاجتماعي والحكم الرشيد, نقول بدلا من ذلك, تراجعت فيهما الحالة المصرية درجات, حيث توقفت الحياة تقريبا إلا من فوضي عارمة وسرقات وتخريب وحرائق ودمار ومظاهرات واحتجاجات وقطع طرق; عامان من التشتت والانقسامات والمزايدات وتكفير الآخر; عامان من الاستخفاف بمقدرات الأمة وغياب الرؤية وتسطيح الفكر وارتعاش الإدارة والعشوائية في القرارات; عامان من الانشغال بالاستغراق في شهوة السلطة والاقتتال للإمساك بها وتوظيف أدوات وآليات الحكم في سبيلها; عامان من المراوغة بين النخب واستخدام فنون النفاق لدي البعض, وأساليب الاستقواء والعناد المقترن بالترهيب والترغيب لدي البعض الآخر; عامان من فتاوي شاذة تكشف عن مرض النفس, وظلمات الفكر وردة عن صحيح الإسلام بلغت ذروتها أخيرا باستباحة دم المعارضين للحاكم; عامان ألقت محاصرة مقار المحاكم ودعاوي الانتقام وسوء إدارة ملف أموال مصر المنهوبة بظلال سلبية علي فرص استردادها; عامان شهدتا اختراقا غير مسبوق لحدودنا الشرقية والغربية من الإرهابيين وتجار الأنفاق والسلاح والمخدرات, واحتلالا من نوع جديد لأجزاء من شبه جزيرة سيناء; عامان من التراجع في علاقات مصر الخارجية, السياسية والاقتصادية, عربيا ودوليا.. والمحصلة: التباس حول هوية الدولة; نموذج صارخ للدولة الفاشلة; انتكاسات في كل الاتجاهات, وفي جميع المحاور أمام إدارة فاقدة القدرة علي ابتكار الحلول وتعمل بمنطق التجربة والخطأ; حكومة خارج السياق فلا هي سياسية تعي فنون الحكم وأساليب السياسة, ولا هي تكنوقراطية تمتلك الخبرات والمهارات والرؤي والبرامج وقادرة علي إدارة الأزمات, وتقديم أطروحات لكبح جماحها وعلاج مسبباتها والخروج منها; مؤسسات يجري تجريفها وتفريغها من قياداتها بطريقة ممنهجة لإفساح المجال أمام القادمين الجدد; تقهقر إلي الخلف درجات واستدعاء لذكريات القمع وتغليب الحلول الأمنية; ظهور ميليشيات مسلحة تنال من هيبة الدولة, وتهدد الأمن الاجتماعي ووحدة الوطن, أرضه وشعبه; النيل من دولة القانون والتغول علي استقلال السلطة القضائية وحرية الإعلام, وتمثل ذلك بصفة خاصة في انتخاب مجلس شوري مشكوك في دستوريته; إهدار حصانة النائب العام; إصدار إعلان22 نوفمبر2012 الدستوري; محاصرة المحكمة الدستورية العليا وتهديد سلامة قضاتها; محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي, وإصدار دستور مشوه ومنقوص الشرعية بحسبان شبهة البطلان التي لا تزال تلاحق الآلية التي أعدته والعوار الذي أصاب معظم مواده والنسبة الهزيلة التي أقرته.. تلك رصيد عامين تفجر فيهما غضب أمة تراكمت معاناتها علي مدي أكثر من نصف قرن وعبر عنه شعبها بأشكال مختلفة تقزمت أمامها النخب والقوي والتيارات وغرقت, ومعها سلطات الحكم, في تخبط وعشوائية, وتراجعت الأهداف وتعثرت مسيرة التحول الديمقراطي الحقيقي وبناء مؤسساته.. والدرس المستفاد هو أن إدارة دولة بحجم مصر وشعبها يصعب أن يأتي وليد مصادفة أو بحكم واقع اللحظة, كما أنها لا تتحمل التجربة والخطأ ويفسدها الاستحواذ والإقصاء. المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى