يري البعض أن الفترة الانتقالية طالت أكثر مما يجب, وعند ذكر موضوع التحول الديمقراطي فإنه يتوجس من الفترة المطلوبة لحدوث هذا التحول, حيث تزداد فيها الأمور تعقيدا وتشابكا. وللإنصاف فإن للتحول الديمقراطي معايير وسمات من المفيد أن نستحضرها حتي نكون علي بينة من الأمر ولكي نكون أكثر واقعية. ولقد مرت دول كثيرة بعملية التحول الديمقراطي, وكانت لها ظروفها وأحوالها التي أثرت بشكل مباشر في المدة الزمنية المطلوبة لهذا التحول, فبينما استغرقت بعض من دول شرق وجنوب أوروبا عدة أشهر( اليونان- رومانيا- بلغاريا- ألمانياالشرقية) لاحداث التحول الديمقراطي, فقد احتاجت دول أوروبية أخري مددا أطول من ذلك( البرتغال- إسبانيا- هولندا- المجر). وطالت المدد أكثر وأكثر حتي بلغت سنوات عديدة في بعض بلاد أمريكا الجنوبية. وفي بلادنا يحدث نوع من الارتباك السياسي, لأن بعض الأطراف المطالبة بالتحول والاصلاح تحاول أن تستأثر ببعض المكاسب متفوقة بذلك علي أطراف أخري, وفي هذه الحالة تتعثر عملية التحول الديمقراطي لضعف الثقة أو انعدامها بين الأطراف مما يؤثر علي فرص النجاح في وقت معقول, ويؤدي ذلك بالضرورة إلي طول المدة المطلوبة. وتلعب النخب الحاكمة والمعارضة دورا مؤثرا علي ساحة التحول, وتلجأ هذه وتلك إلي ممارسة الضغوط بواسطة القوي الاجتماعية المؤيدة لكل فريق. فبينما نجد التيار الاسلامي يستند إلي تأييد شعبي عريض بسبب ما بذله من نضال سياسي وخدمات جماهيرية لمدة عقود طويلة, ومازال هذا الرصيد الاجتماعي في حوزته لا ينافسه في ذلك تيار آخر, ونجد علي الجانب المضاد لهذا التيار خطابا شعبويا يحاول أن يصل إلي مشاعر الجماهير مستغلا عدة أمور منها حماس الشباب واندفاعه, والوضع الاجتماعي والاقتصادي المتأزم الذي نتج عن اهمال النظام السابق وفساده. لكن المشهد يتعقد ويزداد العجب حينما نري أعمال العنف التي تواصلت وتنوعت من محاولات الهجوم علي مقار حكومية( قصر الاتحادية- مديريات الأمن- مباني بعض المحافظات...), وامتد العنف ليعطل مصالح الجماهير بتعطيل خطوط المترو وقطع طرق السكك الحديدية والكباري الرئيسية حتي وصل الي الإغلاق العمدي لمجمع التحرير. فهل تصب هذه الأعمال في دفع عملية التحول الديمقراطي أم انها تعرقلها بشكل واضح؟! ويدل ذلك بوضوح علي وجود عناصر فاعلة ومؤثرة تتعمد إيقاف التحول الديمقراطي بل ووأد الثورة وجعلها مجرد ذكري أو عملية اصلاح محدودة علي أكثر تقدير. ومن الغريب أن نجد من يدافع عن هذه الأفعال معتبرا إياها أعمالا ثورية, نجد ذلك في بعض وسائل الإعلام الخاصة ومن بعض رموز المعارضة التي كان من المفترض أن تتبني وتساعد في عملية التحول الديمقراطي لا أن تعرقلها, وأعتقد أنها بمسعاها ذاك تجد نفسها برغبة منها أو علي غير رغبة في صفوف قوي الثورة المضادة التي تبدو صاحبة المصلحة الأكيدة والمباشرة في إجهاض المسيرة الديمقراطية. ولسائل أن يسأل أليس الالتزام بالتحول الديمقراطي مصلحة مشتركة لقوي الحكم والمعارضة يجب الحرص علي تحقيقها حتي وإن بدت بعض العيوب في هذه المرحلة؟. لقد تمت بعض الخروقات للعملية الديمقراطية من الحكم والمعارضة كليهما, ويجب أن ننوه إلي أنه يجب الالتزام بالمسيرة الديمقراطية لأن البديل كما حدث في تجارب بلاد كثيرة هو اضطراب فوضوي ينتهي حتما إما بخلخلة أركان الدولة أو بمعاودة السير مرة أخري في طريق الدكتاتورية, وكلا الأمرين كارثي ومرفوض. إن التحديات التي نواجهها أثناء التحول الديمقراطي كثيرة ومتشعبة, ومن المهم أن يدرك الشعب مع النخبة السياسية تلك التحديات, إذ بدون هذا الادراك تتخبط النخبة وتحار الجماهير. من هذه التحديات ضرورة الوعي والحرص علي حتمية العملية الديمقراطية بمشتملاتها القيمية والقانونية والاجرائية. إن من أهم الأمور القيمية أن يعلم الجميع أن الديمقراطية وعاء متسع للحوار واحترام الرأي الآخر والبعد كل البعد عن العنف اللفظي والماد, بل ومحاربته بكل قوة لأنه يقع خارج المنظومة الديمقراطية بشكل كامل, ولو تم التساهل معه لقضي عليها قضاء مبرما. وإن جيل الشباب مخاطب بصفة خاصة بهذا المعني القيمي لأنه غالبا الجيل الذي تصدر عنه العمليات العنيفة التي تقوض المسار الديمقراطي. ولعل من أبرز الأمور القانونية التي يجب استحضارها احترام المؤسسات التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية لأن الدستور ينص علي ذلك. وينبغي لسلطات الدولة الثلاث- رغم الفصل بينها- أن تتعاون في رعاية وترسيخ التحول الديمقراطي. ويعد النظام الانتخابي والتوافق علي قانون الانتخابات من أهم الاجراءات الديمقراطية التي تضمن النزاهة والقبول بنتائج العملية الانتخابية دون تشكيك أيا كان الفائز فيها. وتأتي التحديات الاقتصادية علي رأس هرم التحديات, فبسببها تندلع الاضطرابات وتقوم الثورات لأنها- أعني التحديات الاقتصادية- تمس حياة المواطنين بشكل مباشر ومؤثر. وتختلف نظرة النخبة عن نظرة الجماهير في التحديات الاقتصادية, فالجماهير يهمها في المقام الأول الأمور الحياتية مثل التعليم والصحة والإسكان والمواصلات وربط الأجور بالأسعار حتي لا يتحول التضخم إلي كابوس تعاني منه الجماهير. وعلي النخبة أن تعمل أثناء عملية التحول الديمقراطي إلي تحقيق نوع من الاستقرار الاقتصادي مع مراعاة العدالة الاجتماعية. ولقد واجه كثير من الدول تأثير عملية التحول الديمقراطي وارتباطها علي التحديات الاقتصادية فعمدت إلي تسخير العملية السياسية لدفع النمو الاقتصادي( تجربة البرازيل) والعمل علي جذب الاستثمارات وتوجيهها للتعليم والصحة والبنية الأساسية( تجربة شيلي). إن هدفنا الاقتصادي يجب أن يتوجه إلي مثل ما ذكر من أمور مع محاربة للفساد لا هوادة فيها مع البعد عن الخطب الشعبوية التي تعزف علي وتر المعاناة دون أن تحقق شيئا ملموسا في حياة الناس. وتأتي التحديات السياسية التي تجعلنا نعيش في حالة من الخوف والقلق, لكن هذا أمر يحتاج إلي تفصيل لا تتسع له مساحة هذا المقال وقد نعود إليه في مرة أخري بإذن الله. المزيد من مقالات د.حلمى الجزار