اثار اعتراف رئيس بيلاروس السابق بضياع الوثيقة التاريخية التي وقع عليها مع اثنين من رؤساء الجمهوريات السوفيتية السابقة حول حل الاتحاد السوفيتي في ديسمبر1991 الكثير من اللغط المشوب بالدهشة لما تتضمنه هذه الواقعة من ايحاءات وتداعيات في نفس الوقت الذي راح فيه شهود عيان تلك اللحظة الفارقة في تاريخ روسيا والعالم, يتذكرون الكثير من فصولها العبثية ومنها ما يندرج تحت عنوان صدق أو لا تصدق. اعترف ستانيسلاف شوشكيفيتش رئيس السوفيت الأعلي الاسبق لجمهورية بيلاروس في حديثه الي وكالة انباء اسوشيتد برس في السابع من فبراير الجاري بضياع اصل الوثيقة التاريخية التي وقعها مع نظيريه الروسي بوريس يلتسين والاوكراني ليونيد كرافتشوك في الثامن من ديسمبر1991, وكان يريدها لتوثيق تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الشعوب السوفيتية والعالم في مذكراته التي يعدها للنشر. ولعله من سخريات القدر ان تضيع هذه الوثيقة التي حار الرؤساء الثلاثة طويلا أمام الاتفاق حول مضمونها وصياغتها علي مدي ساعات طوال تحت جنح الظلام في غابات بيلافجسكويه بوشا في بيلاروس, للمرة الثانية, وهي التي سبق وضلت الطريق الي السكرتيرة التي عهدوا اليها بطباعتها علي الآلة الكاتبة. وكان الرئيسان الروسي والاوكراني اوعزا الي زميلهما البيلاروسي لدعوتهما الي رحلة صيد في غابات بيلاروس وهو ما صدقه البروفيسور شوشكيفيتش عالم الرياضيات الذي ساقته صدف الاقدار الي غياهب عالم السياسة. ويذكر الرئيس الأوكراني الاسبق كرافتشوك ان شوشكيفيتش صدق بالفعل ان اللقاء الثلاثي الذي جمعهم في ضيافته كان بغرض القيام برحلة صيد وليس من اجل تدبير الاطاحة بجورباتشوف وتحقيق حلم الانفصال عن الاتحاد السوفيتي. ونذكر بهذا الصدد ما قاله لنا الرئيس الاوكراني الأسبق في لقاء جمعنا معه في مكتبه بالمقر القديم للجنة المركزية للحزب الشيوعي الاوكراني في كييف في عام1992 حول ان الزعيم السوفيتي السابق جورباتشوف كلف يلتسين بابلاغه خلال لقائهما في بيلاروس باستعداده للموافقة علي كل ملاحظاته علي صياغة المعاهدة الاتحادية الجديدة التي أراد بها جورباتشوف ان تكون اساسا يجمع ما بقي من جمهوريات سوفيتية حول فكرة الحفاظ علي الاتحاد السوفيتي, وقال كرافتشوك: انني بادرت بسؤال يلتسين عن موقفه من هذه الصياغة؟. وحين اجاب يلتسين بانه سوف يوافق علي ما أوافق عليه, قلت له.. انني لن أوافق علي انضمام اوكرانيا الي هذه المعاهدة, وهو ما سارع يلتسين الي تأييده قائلا أنه أيضا لن يوافق! ومن هنا بزغت فكرة الاتفاق حول التفكير في السبيل القانوني لتحقيق فكرة الانفصال.. وكان جورباتشوف تناول هذه الواقعة في مذكراته حين اشار الي انه علم بنبأ الزيارة المرتقبة ليلتسين الي بيلاروس, ما دفعه الي سؤاله عن سببها, وهو ما رد عليه يلتسين بقوله انه يريد مناقشة بعض الاتفاقيات الثنائية مع بيلاروس فضلا عن اللقاء مع رئيس اوكرانيا كرافتشوك الذي من المتوقع ان يكون هناك. وقال جورباتشوف انه طلب من يلتسين اعتمادا علي مواقفه السابقة المؤيدة للصياغة الجديدة للمعاهدة الاتحادية, ابلاغ الرئيس الأوكراني بموافقته مسبقا علي كل ملاحظاته علي هذه المعاهدة شريطة اعلانه الموافقة عليها. وكان يلتسين اكد في مذكراته ما قاله كرافتشوك حول ان الحيرة انتابت أعضاء الوفدين الروسي والاوكراني بسبب صعوبة توفير التبرير القانوني لمشروعية الانفصال. واعترف الرئيسان بان سيرجي شاخراي مساعد الرئيس يلتسين للشئون القانونية كان صاحب فكرة الصياغة القانونية التي تقول بأحقية الجمهوريات السلافية الثلاث المؤسسة للاتحاد السوفيتي في عام1922 في المبادرة باعلان خروجها من هذا الاتحاد. وكان شاخراي استغرق مع رفاقه وقتا طويلا للخروج بالصياغة النهائية التي استقروا عليها ليعهدوا الي يجور جايدار القائم باعمال رئيس الحكومة الروسية باعادة كتابتها بخط افضل من خط شاخراي وتسليمها الي السكرتيرة لطباعتها. ولما كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير, فقد دفعوا بالنص إلي أسفل باب غرفة السكرتيرة حرصا منهم علي عدم ازعاجها في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل, لكنه اتضح عند الصباح انهم اخطأوا رقم الغرفة ما كان مثار سخرية ودهشة الجميع. ومن المضحكات المبكيات لهذه الأحداث ما انتاب الرؤساء الثلاثة من حيرة بعد توقيع هذه الوثيقة التاريخية امام كيفية ابلاغ الرئيسين السوفيتي جورباتشوف, والامريكي جورج بوش الاب بما جري الاتفاق حوله. واصاب الارتباك كلا من يلتسين وكرافتشوك تجاه اختيار الرئيس الذي يمكن ان يتولي مهمة ابلاغ جورباشوف بقرارهم وهو ما قام به يلتسين بعد تردد لم يدم طويلا, بينما تولي رئيس السوفيت الاعلي لبيلاروس مهمة ابلاغ الرئيس الامريكي بوش بنتائج اللقاء التاريخي والتي علم بها قبل نظيره السوفيتي!, الأمر الذي كاد جورباتشوف يفقد معه صوابه ليطلق صيحته المدوية: العار كل العار ان يعلم الرئيس الأمريكي بقرار حل الاتحاد السوفيتي قبل رئيسه. وتتوالي مشاهد المأساة ليجتمع رؤساء من بقي من جمهوريات الاتحاد السوفيتي وكانوا تسعة, في المآتا العاصمة القديمة لقزخستان في21 ديسمبر للاتفاق حول انهاء وجود الاتحاد السوفيتي وإحالة رئيسه الي التقاعد, وهو الاجتماع الذي رفض جورباتشوف حضوره. في هذا الاجتماع اقر المجتمعون معاشا تقاعديا لجورباتشوف شاءت سخرية الاقدار الا تتعدي قيمته الفعلية اربعة دولارات بعد تعويم قيمة العملة الروسية!. اذكر ايضا الخامس والعشرين من ديسمبر1991 وهو التاريخ الذي اعلن فيه جورباتشوف استقالته من منصبه كرئيس للاتحاد السوفيتي في لقاء لم يحضره من الصحفيين الاجانب المعتمدين في موسكو سوي ستيف هيرست مراسل قناة سي إن إن الامريكية, وكان جورباتشوف اصر علي ان يكون توقيعه علي مرسوم استقالته علي الهواء مباشرة.غير انه وحين هم بتوقيع هذا المرسوم وامعانا في سخرية الاقدار لم يمتثل القلم لهذا القرار, ما جعل ستيف يسارع بمناولته قلمه ما يعني عمليا ان التوقيع علي وثيقة نهاية الاتحاد السوفيتي كان بقلم أمريكي!.