الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعمل. وهو يعمل بإختياره وإرادته, وحين يعمل فإنه يجدد ويبتكر. وإذا كان الإنسان يعمل لإشباع حاجاته, فإنه من خلال هذا العمل يغير البيئة التي يعيش فيها, ومن هنا قامت الحضارات. فالإنسان وحده صانع للحضارات من خلال العمل والإبتكار والتجديد. أما الحيوان, فإنه لا يعمل, وإنما تحركه غرائزه للحصول علي قوت يومه في عملية روتينية بلا تبديل أو تغيير. فهو عبد للبيئة ولغرائزه الموروثة, لا حرية له أو إختيار. فالإنسان وحده صانع للحضارات لأنه وحده يعمل. ولكن العمل وثماره ليس منحة مجانية من السماء, بل هي فرصة يكتسبها بالجهد والألم والصبر. فالطبيعة لا توزع جوائز مجانية علي الأفراد, بل عليهم بالكد والجهد, البحث عن مكامن الثروة, وهو ما يتحقق بالعمل الجاد, وأحيانا الشاق, مع إستثمار الأفكار المبتكرة, وتحمل الفشل مرة ومرات قبل تحقيق النجاح. ولا يمنع ذلك من أن يتحقق, أحيانا, بعض النجاح عن طريق الحظ أو المصادفة. ولكن هذا النجاح هو نوع من الإستثناء علي القاعدة العامة وهي ضرورة إكتساب النجاح بالعمل والعرق والصبر والمثابرة. وهذا هو الطريق الوحيد للتقدم وبناء الحضارات. ولكل ذلك فإن العمل هو حق للإنسان بقدر ما هو واجب عليه, بل أن العمل هو شرف له, فلا تكتمل إنسانية الفرد وإحترامه لنفسه إلا بالعمل الجاد والشريف. فمن كان قادرا علي العمل, ولا يجد عملا, فإن إنسانيته لا تكون كاملة. ولذلك فإن المجتمعات التي لا توفر فرصا كافية للعمل لمواطنيها, فإنها تحرمهم من التمتع بكامل حقوقهم الإنسانية. فالعمل حق بقدر ما هو واجب. فلكل فرد الحق في العمل الشريف كما أنه واجب عليه, وبالمثل فإن علي الدولة أن تعمل علي توفير فرص العمل لأبنائها لإستيعاب طاقتهم الخلاقة وبما يعود عليهم وعلي المجتمع بالخير. ولكن فرص العمل لا تعني مجرد خلق وظائف وهمية لمجرد توزيع مرتبات علي المتقدمين لهذه الوظائف دون أن يكون من وراء هذه الوظائف أية إضافة إلي الناتج القومي. فإذا لم يترتب علي العمل قيمة مضافة, فهو ليس عملا بل هو نوع من الإعانة الإجتماعية. ولا يمكن أن تتقدم الدول إعتمادا علي الإعانات الإجتماعية وحدها. فالإعانات مطلوبة وضرورة, في كل مجتمع, لمن تمنعهم ظروفهم الصحية أو الإجتماعية من العمل المفيد, أما أن يتحول جزء كبير من أبناء الشعب إلي منتفعين بالإعانات الإجتماعية تحت أسماء وهمية, فهو خطر علي المجتمع وعلي الأفراد. وطالما نتحدث عن أهمية العمل في المجتمع, فإنه من الضروري أن تتضح المسئولية الفردية والإجتماعية. فهناك مسئولية علي المجتمع ممثلا في الدولة, كما ان هناك مسئولية علي كل فرد للبحث عن عمل مشروع. وفي كل هذا فلا وجود للعمل إن لم يكن مرتبطا بزيادة في الإنتاج. الدولة مسئولة عن توفير فرص عمل بخلق مناخ مناسب للإستثمار, وهذا يتطلب ضرورة قيام الدولة بتوفير بنية أساسية مادية ومؤسسية لخلق فرص عمل. فقيام الدولة بدورها التقليدي في حفظ الأمن والعدل والإستقرار أمر لا مناص منه لخلق فرص العمل. ودون دولة قانون مع قضاء نزيه وعادل وسريع وغير مكلف, فإنه من الصعب تحقيق أي إنتعاش في الإستثمارات. ولكن الدولة تقوم أيضا بتوفير مقومات البنية الأساسية من طرق وطاقة وإتصالات ومياة وصرف صحي وحماية للبيئة. كذلك فإن التعليم والتدريب هو أحد المقومات الأساسية لخلق فرص عمل حقيقية وبشرط أن يكون تعليما حقيقيا وليس مجرد منح شهادات دون تعليم أو خبرة فنية. كذلك فإن الشفافية في المعلومات أساسية لقيام صناعات قادرة ومنافسة. هذه كلها أولويات لخلق مناخ مناسب لزيادة فرص العمل المنتج. كذلك هناك ضرورة وضوح السياسات الإقتصادية بكل ما يتطلب من توفير البيئة المناسبة للاعمال والإستثمار. وبالمثل فإن الدولة مسئولة عن توفير عناصر العدالة الإجتماعية في المساواة في الفرص وتمكين الفئات الضعيفة إجتماعيا من كسر الحواجز التي تحول بينها وبين الإندماج في الإقتصاد الإنتاجي. وليست السياسة الخارجية بعيدة عن زيادة فرص العمل وذلك بإقامته علاقات صحية مع العالم الخارجي. وفي كل هذا يتضح أن مسئولية الدولة عن توفير فرص العمل وثيقة الصلة بمسئولية الدولة عن تحقيق التنمية الإقتصادية. ففرص العمل هي نتيجة لتحقيق التنمية كما أنها الوسيلة إليها في نفس الوقت. ولكن الخطورة تكمن إذا إختارت الدولة الطريق السهل والخاطيء في نفس الوقت بإعتماد سياسة التوظيف في الحكومة, بإعتبارها, حلا لمشكلة البطالة. هذا ليس علاجا للمشكلة بقدر ما هو هروب منها, وتعميق لها. ففي مصر أكثر من ستة ملايين موظف, والحكومة المصرية هي من أكبر الحكومات في العالم من حيث عدد العاملين فيها. ونتيجة لهذا التكدس الإداري, فإن مرتبات العاملين( أقصد الغالبية منهم) متدنية ولا تكفي لضمان حياة كريمة. ومن هنا تدني أو إنعدام الكفاءة فيها وإزدياد معدلات الفساد بها وغلبة التواكل وإنعدام أو ضعف المبادرة والإبتكار فيها. فأجهزة الحكومة في ظل الأوضاع القائمة وبسبب هذا التكدس الإداري أصبحت أخطر العوائق للتنمية الإقتصادية والإجتماعية. من حق الشباب أن يتطلع إلي زيادة فرص العمل, وهي الفرص الحقيقية لتفجير الطاقات وإختبار الأفكار الجديدة. ولكن مزيدا من الوظائف الحكومية ليس, في أغلب الأحوال, فرصا حقيقية للعمل بقدر ما هو تخدير مؤقت وغير قابل للإستمرار. لقد قدمت الحكومات السابقة العديد من المشروعات للشباب, ولا أدري ما آلت إليه هذه المشروعات. وربما تكون هناك حاجة إلي النظر في تلك المشروعات وإستخلاص الدروس عن أسباب فشلها, إذا لم تكن قد حققت أهدافها, ومحاولة إصلاحها إذا كانت قابلة للإصلاح. لمصر تجربة طويلة في محاولة زيادة فرص العمل, والتي كانت في أغلبها زيادة عدد الوظائف الحكومية مما زاد في تكدس الحكومة وتدهور خدماتها وزيادة أعباء الموازنة دون زيادة حقيقية في الناتج القومي. وعلينا أن نتعلم من أخطائنا, وليس تكرارها. أخشي أن يؤدي الإعتماد علي زيادة التوظيف الحكومي إلي تأسيس مجتمع أبوي يعتمد فيه الأفراد علي الدولة لتوفير دخل لهم ليس بالمساهمة في زيادة إنتاجية البلد وإنما بالحصول علي مرتب حكومي مع زيادة اعباء البيروقراطية المصرية المعروفة. ونصبح بذلك شعبا من عيال الدولة نعتمد فيه علي ما تخصصه الموازنة في بند الأجور دون صلة بما يمكن توفيره للناس من خدمات يحتاجها المجتمع. وتصبح الوظائف العامة عبئا علي الموازنة العامة والمجتمع وليست إسهاما في زيادة الناتج والإنتاجية. حقا, يجب أن يكون خلق فرص عمل حقيقية هو الهاجس الأكبر للدولة, وبشرط أن تكون هذه الفرصة تعبيرا عن إضافة حقيقية للإقتصاد والمجتمع بزيادة قدرة الإقتصاد وليس بزيادة عدد الموظفين الذين يقال إن إنتاجيتهم الحقيقية لا تجاوز عدة دقائق أو حتي ساعات في السنة. فمجرد زيادة عدد الموظفين ليس علاجا لمرض البطالة بل قد يزيده سوءا. فهذا التوظيف لا يعد أن يكون نوعا من الهروب إلي الأمام بزيادة أعباء البيروقراطية وترهل الخدمات الحكومية وربما زيادة معدلات الفساد في المستويات الدنيا والوسطي للعمل الحكومي, وهي أخطر أنواع الفساد. والله اعلم. فقدت مصر خلال الأيام الماضية أحد علماء الإقتصاد البارزين. الدكتور حسين عبد الله الخبير الإقتصادي المعروف في إقتصاديات البترول. وقد عمل وكيلا لوزارة البترول وكانت له إسهامات مهمة في هذا المجال. وقد تعرفت علي الدكتور عبد الله أثناء عملنا سويا في جامعة الكويت عند بداية إنشائها. رحم الله الفقيد وألهم أسرته الصبر والسلوان. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي