رأيت دموع العروبة تنهمر بحورا غزيرة حزينة, بين لبنان ومصر, كما انهمرت من قبل بين مصر والجزائر, وكما تنهمر كل يوم بين المسلمين والأقباط داخل القطر الواحد, وما بين السنة والشيعة داخل القطر الواحد, وبين الشمال والجنوب داخل القطر الواحد. إن ما حدث في قرية كترمايا اللبنانية تطور خطير, علينا أن نتوقف عنده بالبحث والدراسة ليس بسبب بشاعته غير المعهودة, وإنما بسبب دلالته الخطيرة, فكم من الجرائم ترتكب كل يوم, ويمكن أن يكون بعضها بمثل تلك البشاعة, لكن تظل كل منها حالة فردية من حالات الاختلال النفسي أو الانفعال العاطفي أو غير ذلك من الدوافع التي تؤدي إلي جرائم العنف في كل زمان ومكان. أما جريمة كترمايا, فهي أخطر من كل ذلك, وحين أتحدث عن الجريمة, فإني لا أقصد الجريمة التي ارتكبها أهالي القرية اللبنانين ضد محمد مسلم المصري غاضا الطرف عما إرتكبه هو من جريمة قتل رباعية, ولا أتحدث عن جريمة محمد مسلم المصري غاضا الطرف عن جريمة السحل والتمثيل بالجثة التي ارتكبها اللبنانيون, وإنما أنا أتحدث عن الجريمة علي الجانبين, والتي يدفع ثمنها المصريون واللبنانيون معا, فتلك هي الجريمة الكبري التي تدمي الآن قلب الأمة العربية كلها. إن الوقائع التي تناقلتها الصحف العربية سواء في مصر أو في لبنان, جعل هذه الجريمة المزدوجة تتضمن تفاصيل يندي لها الجبين, والحقيقة التي ينبغي الاعتراف بها هي أن الصحافة عندنا لم يعد موثوقا بها, فيما تنقله من وقائع, والذي قد يكون في بعض الأحيان بغرض الإثارة, وزيادة التوزيع, وليس للغرض الذي من أجله وجدت الصحافة, وهو نقل الحقيقة, وإعلام القاريء بحقيقة ما يجري من حوله, ولقد دهشت أن وجدت في نفس هذا الأسبوع أقوالا منسوبة لشخصي في إحدي الصحف المفترض أنها محترمة, لم أتفوه بها, بل ولم أتحدث في موضوعها من قريب أو بعيد, لكن أحد الصحفيين من أبناء الصحافة العشوائية نسب إلي أو اختلق ما أراد أن يضيف به بعضا من البهارات لمقاله الفارغ. إن مثل هذه الممارسات التي انتشرت في صحافتنا في السنوات الأخيرة جعلت الاعتماد علي الصحافة في استقاء المعلومات عملية غير مأمونة باعتبار أن الحقيقة شيء, وما يسمي كلام الجرايد شيء آخر, وربما كان أحد أسباب هذه الظاهرة المؤسفة التي تنتشر الآن في صحافتنا هو أن الصحافة أصبحت تضم الكثيرين ممن دخلوا هذا المجال بلا دراسة, فوجدوها بلا قدوة تذكرهم بقواعد الصحافة, سواء المهنية منها أو الأخلاقية, فبدلا من بذل الجهد في البحث عن الحقيقة, وهو ما يسمي الصحافة الاستقصائيةinvestigativereporting أصبح هؤلاء الصحفيين الجدد يأخذون الطريق الأسهل, فيختلقون الحقائق بدلا من البحث عنها, وتقصي تفاصيلها. ولقد تجلت هذه الظاهرة بشكل واضح في أحداث المباراة الشهيرة بين مصر والجزائر, والتي ضاعت فيها الحقيقة بين قناة فضائية وأخري, فلم يعد بمقدور المشاهد الباحث عن الحقيقة أن يعرف هل ضرب المصريون بالفعل فريق الكرة الجزائري داخل الاتوبيس بمجرد وصوله إلي القاهرة كما أكدت بعض الفضائيات؟ وهل ضرب الجزائريون بالفعل جمهور المشجعين المصريين في السودان كما أكدت فضائيات أخري؟ فوسط هذه القناة الفضائية وتلك بين مقال في جريدة هنا وآخر هناك ضاعت الحقيقة, وبدلا من أن تساهم أجهزة الاعلام في تسليح المواطن بالحقيقة, عملت علي تأجيج مشاعره العدائية وانفعالاته البدائية كما في المجتمعات القبلية المتخلفة. أما في حالة جريمة كترمايا, فإلي جانب كل الملابسات التي غاصت فيها أجهزة الاعلام إلي أذنيها, هناك حقائق ثابتة لم تستطع الصحافة أن تعبث بها, لأنها تتعلق بوقائع تحقيقات قانونية, معروضة الآن أمام القضاء, وإن تفننت الصحف بالطبع في تلوينها, واللعب علي مشاعر المواطنين غير عابئة بعلاقات الدم التاريخية بين الشعبين المصري واللبناني. أولي هذه الوقائع أن محمد مسلم متهم بارتكاب جريمة قتل رباعية بشعة, حيث اغتال جدا وجدة متقدمين في السن مع اثنين من أحفادهما الأطفال اللذين يقال أنه تم التمثيل بجثيتهما أيضا والحقيقة الثانية والتي لا تقل عن الأولي بشاعة هي أن أهالي القرية التي ارتكبت فيها الجريمة الأولي قاموا بقتل محمد مسلم وسحلوه ومثلوا بجثته, ثم علقوه علي أحد أعمدة النور في الشارع. أما بقية الحقائق التكميلية فمنها ما يتعلق بنشأة محمد مسلم المضطربة والتي أوردها والده الذي كان قد طلق زوجته أم المتهم أثناء طفولته, وتلك قد تجعلنا نتفهم ظروف جريمته البشعة, لكنها لا تبررها بأي حال من الأحوال, ومنها ما يتعلق بشعور الغضب والاستنفار الذي عم قرية كترمايا إثر ارتكاب جريمة قتل الجدين وحفيديهما الطفلين, وهي الأخري قد تجعلنا نتفهم ظروف ارتكاب الجريمة الثانية لكنها لا تبررها بأي حال من الأحوال. والجريمة بذلك خرجت للأسف من كونها جريمة جنائية فردية, لتصبح جريمة قومية جماعية دخل الشعبان المصري واللبناني طرفا فيها بمساعدة فعالة من أجهزة الاعلام التي ركزت علي جنسية المتهمين علي الجانبين بقدر ما ركزت علي جريمتيهما, فصنعت خليطا متفجرا يثير مشاعر الانتقام والقصاص من المصريين علي هذا الجانب, واللبنانيين علي جانب الآخر, وتلك جريمة أكثر بشاعة بالمفهوم القومي والسياسي من قتل الأطفال أو التمثيل بالجثث. تبقي بعد ذلك حقيقة واحدة لم تتوقف الصحف عندها كثيرا, وهي أن أسرة محمد مسلم هي مثال في الحقيقة من أمثلة كثيرة علي أواصر الدم بين الشعبين علي مدي التاريخ المصري واللبناني التي هي نتاج لعلاقات المصاهرة بين الشعبين, فهو يقيم في لبنان لأن أمه المصرية متزوجة من لبناني, وذرية هذا الزواج بما تمثله من اختلاط الدم العربي علي مدي قرون من الزمان هي الضحية الحقيقية, والتي تجعل من تلك الجريمة المزدوجة التي شهدتها قرية كترمايا جريمة قومية بشعة نتمني ألا تكون بداية لفصل جديد من الاقتتال والتجزئة التي نشهدها في الوطن العربي منذ سنوات.