في الجمعة كما أي يوم آخر, ما عدا السبت والأحد, تشهد المنطقة المتاخمة للسفارة الامريكية, في قلب العاصمة أنقرة, منتصف النهار كثافة مرورية إلي حد لافت ومعها حركة مارة دءوبة، ففيها مقر لصحيفة ميلليت, أحد أشهر الصحف بالبلاد, وخلفها بناية تابعة لإحدي الفضائيات وهي أيضا ذائعة الصيت, يجاورها بنك عربي تركي مشترك, ويمكن للمرء أن يري جانبا من البرلمان, بالإضافة إلي ذلك ثلة من المطاعم والمقاهي, وعلي رغم محدودية عددها نسبيا, فإنها تزدحم بروادها, وغالبيتهم من الموظفين, الذين ينتهزون راحة الظهيرة التي تمتد من الثانية عشرة إلي الواحدة والنصف, ليتناولوا طعام الغذاء واحتساء المشروبات الساخنة, قبل العودة مجددا إلي مقار أعمالهم التي تقع في المربع نفسه الذي يحتضن المقر الدبلوماسي الأمريكي الرئيسي في الأناضول, وهو بدوره لا يبعد سوي عشرات الأمتار من سفارات أوروبية, والسفارةالمصرية, وهي السفارة العربية الوحيدة والتي ينتهي عندها بوليفار أتاتورك الشهير. لكن نهاية الاسبوع الماضي, كانت تلك المنطقة علي موعد مع الفزع والرعب, فعلي حين غرة دوي انفجار اهتزت له المنطقة, إذ استهدف السفارة الامريكية, ليصاب الجميع بالهلع, وكادت أقدامهم تتصلب في مكانها تحسبا لتوابع قد تكون لاحقة للزلزال المباغت. وفي اللحظة التي قطعت الشبكات الإخبارية برامجها العادية, لتنقل الوقائع لحظة بلحظة علي الهواء مباشرة, كان نفير سيارات المطافيء والإسعاف يدق فضاء العاصمة مستنفرا, وفي موقع الجريمة, قام رجال البحث الجنائي, بإغلاق جميع الطرق المؤدية لها, شهود العيان الذين أصابهم الذهول من هول المفاجأة, أكدوا أنهم رأوا أجزاء بشرية, بما جعل التخمينات تميل إلي ان الحادث نجم عن عمل انتحاري, وهو ما أكده بعد مرور اقل من ساعة, رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان الذي كان في إسطنبول, وأن ظلت الدوافع غامضة. وعلي الرغم أن السفارة محصنة تماما بيد أن مبانيها الداخلية خلف السور الفولاذي لم تصب بسوء, فإن أصواتا لمحت إلي احتمال حدوث اختراق, والدليل علي ذلك ما ساقته صحيفة راديكال في اليوم التالي للعملية الإرهابية, فقد دخل الانتحاري ويدعي اجويد شانلي غرف الحراسة وكان محملا بمتفجرات يصل وزنها إلي5 كيلو جرامات, ونقلت الصحيفة عن مصادر الأمن بأن شانلي اجري كشفا حول السفارة قبل ان يدخلها, فأين كانت الكاميرات المنتشرة والتي يفترض انها تغطي المكان بالكامل ؟ وما يؤيد تلك المعلومات, هو انهيار مدخل الجزء الخاص بالتأشيرات المطل مباشرة علي الشارع, وطالت الأضرار بنايات وحوانيت تناثر زجاجها يمينا ويسارا, والأهم من كل ذلك سقوط أحد العاملين الأتراك صريعا, بجانب العديد من الجرحي ومعظمهم من الحراس, وقد ظهر هذا جليا علي السفير الأمريكي فرانسيس ريكاردوني, والذي بدا شديد التأثر, وفي جمل أدلي بها باللغة التركية وصف الضحية بالبطل الذي كان يحرس السفارة يوميا من أجل حماية الأتراك والامريكيين معا. من المسئول ؟ ولماذا ؟ كان هذا هو السؤال الذي سارعت الميديا المرئية بطرحه علي أهل الساسة والرأي والخبراء المتخصصين في محاولة للوصول إلي إجابة, نادرا ما تكون شافية, تضع النقاط علي الحروف, خاصة أن الحادث يأتي في خضم تطورات عاصفة, لا تقتصر علي الخارج فحسب, بل الداخل أيضا. ففي الجوار المتاخم, هناك من له مصلحة في إثارة القلاقل بتركيا, هذا إذا تم الأخذ في الاعتبار دعم الأخيرة للمعارضة السورية المسلحة, كذلك تردي العلاقات مع حكومة نوري المالكي في العراق,, وفتورها بالنسبة لإيران, فبجانب هوة المواقف بينهما حيال الملف السوري, هناك أيضا منظومة الدرع الصاروخية في مدينة مالاطيا الجنوبية, التي اعتبرتها طهران مصوبة ضدها, ثم إستجابة حلف الناتو لطلب أنقرة بنشر ستة صواريخ باتريوت علي الحدود السورية, وهي مظاهر لا شك انها أقلقت ملالي الجمهورية الإسلامية, ولا يستعبد أن يشكل مئات الجنود والخبراء من الولاياتالمتحدة وألمانيا وهولندا المصاحبون للباتريوت والذين سيمكثون عاما علي الأقل في الأراضي التركية, نواة لحرب محتملة تقودها واشنطن ضد منشآتها النووية. وداخليا لم تسلم حكومة اردوغان من الانتقادات الشديدة, للاسباب نفسها التي أثارت حفيظة البلدان المجاورة, وبين الحين والآخر تجوب مظاهرات صاخبة مدينتي إسطنبولوأنقرة, إضافة إلي مدن الجنوب الشرقي, منددة بسياسات الحزب الحاكم الموالية لواشنطن. صحيح شاركت فيها تيارات يسارية محظورة شديدة التطرف, ووفقا لما صرح به رئيس الحكومة ووزير داخليته الجديد عمر جولنر, ينتمي الانتحاري مرتكب حادث السفارة لتلك التيارات, إلا أن الصحيح أيضا هو أن قوي يمينية وأحزابا دينية, منها حزب سعادات الذي أسسه الراحل نجم الدين اربكان كانت ضمن الموجات الغاضبة, ورفعت الشعارات نفسها, وأن أضافت الأخيرة بعدا دينيا لتعبر عن مقتها للهيمنة الغربية علي الشعوب الاسلامية. كذلك هناك الجهود التي تقوم بها الحكومة التركية لحل المعضلة الكردية من خلال اتصالات مباشرة مع قادة ورموز منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية وفي مقدمتهم زعيمها عبد الله أوجلان في سابقة مثيرة تحملها ويصر عليها حزب العدالة والتنمية الحاكم, وبالطبع هناك من لا يريد لهذا السلام أن يتم, ولعل إعدام الناشطات الكرديات الثلاث في العاصمة باريس يعكس بل ويؤكد أن الطريق مازال محفوفا بالمخاطر.