أعتقد أنني قد نجحت في الإفلات من صفتين متطرفتين في المقولة الفرنسية الشهيرة, التي أصبحت تقال كأنها حقيقة مسلم بها, وهي أنك إن لم تكن اشتراكيا في العشرين من العمر, فلا قلب لك, وإن لم تكن رأسماليا في الأربعين فلا عقل لك. واستطعت الإفلات من تهمتي قسوة القلب وقلة العقل في هذا الشأن لأنني منذ البداية وأنا أؤمن بالطريق الثالث وكلما تقدم العمر وازدادت الخبرة ازداد الإيمان بالطريق الذي أعتقد أنه تحول إلي فلسفة للعصر الحديث بعد أن كان التناقض بين الرأسمالية والاشتراكية بلغ حد وضع البغل في الإبريق! مرت الرأسمالية بمراحل تطور تاريخية منذ بداية المجتمع البشري, والرغبة الطبيعية الغريزية في الإنسان, للحفاظ علي حياته وأمنه, من خلال مظاهر القوة المادية المختلفة, حتي أخذت شكلها الحديث مع الثورة الصناعية, التي قضت علي المجتمعات القديمة من الملاك والإقطاع, ونشأ المجتمع الجديد من أصحاب الأعمال, الذين يملكون أدوات الإنتاج, والعمال الذين يقومون بالإنتاج, ونشأ مجتمع المدينة التي أثرت علي الفرد, من خلال انتعاشة ثقافية, تقدر التفكير العلمي, وتتلمس التقدم من المعرفة والوعي, مما عمل علي تطور المجتمع الرأسمالي, من خلال تشريعات لحماية العمال والقطاعات الضعيفة في المجتمع كالمرأة والأطفال وكبار السن, وهي مظاهر واضحة للعيان عند زيارة الدول الرأسمالية المتقدمة, حيث تتوفر الخدمات الأساسية للغالبية العظمي من الناس, فتلمس بحق ما هو مجتمع الطبقة الوسطي!, فالتطور الديمقراطي وحرية الفكر وحقوق الإنسان, أفضت بالدول الرأسمالية إلي الطريق الثالث! الطريق الثالث ليس حالة اكتمال بين أسس الرأسمالية وطموحات الاشتراكية, ولكنه حالة عدم اكتمال, فالكمال في الحياة ضد قوانينها, فالإنسان يعيش حالة عدم اكتمال في بحث دائم عن الكمال والطريق الثالث يمثل هذه الحالة, التي توفق باستمرار بين أسس الطبيعة الإنسانية الأنانية, وبين توزيع عادل للثروة, وأيضا, بين حقوق الفرد وحريته, وبين دور الدولة وسلطتها, وكذلك بين الديمقراطية وحكم الأغلبية, وبين حقوق الأقليات وتمتع الفرد باستقلاله, هذا الطريق الثالث هو ما كتب للرأسمالية البقاء أمام التيار الاشتراكي, الذي أعادت إنتاجه في مخاض جديد من خلال تطور الرأسمالية الديمقراطي في اتجاه حقوق الإنسان, ولذا نجد أن الطريق الثالث يوجد في بلاد مختلفة, بصور متنوعة, حسب درجة الرفاهية, والتطور الاجتماعي, وبنسب نجاح أيضا مختلفة, فليس كل من نفخ طبخ, مثلما ليس كل طبخ نفخ!فليست الرأسمالية بذخا واستهلاكا وليست الاشتراكية توزيعا للفقر وهي مظاهر لا مفر منها! كل دولة أدري بالطريق الذي يناسبها, والدولة سعيدة الحظ, هي التي تتمتع بالاستقلال الكافي, لتختار طريقا يحقق لها الأمن الاجتماعي مع مبدأ الفردية الطبيعي, وهو ما حظيت به دولة كبري كالصين, كذلك روسيا استطاعت أن تسترد عافيتها الاقتصادية, معتمدة علي قوة الدولة, أمام التدخل الأجنبي, واستطاعت العبور إلي الرأسمالية والحداثة, تاركة عبء نشر قيم أيديولوجية. أيضا أمريكا معقل الرأسمالية الأكبر, اختارت الطريق الثالث, بعد الأزمة المالية الأخيرة. عندما أقرأ مباديء ثورة يوليو المجيدة, لا أجدها إلا طريقا ثالثا تتلمس خطواتها فيه, فتحقق نجاحات, وتمني بإخفاقات, يجب أن ندرسها باحترام يسمح بالبناء عليها, لاسيما أنها جاءت في منطقة تعج بالأيديولوجيات المغلقة, التي يتم استغلالها بكفاءة لتلعب مع اقتصاداتنا لعبة السلم والثعبان كلما صعدت خطوة عادت للحضيض خطوات, الثورة الحقيقية في هذا العالم هي ثورة المعرفة لا الأيديولوجيات, والمعرفة تحتاج لجري الوحوش لتلاحق سرعاتها التي تتضاعف تكنولوجيا وبيولوجيا كل10 سنوات فقط لاغير! فأين نحن منها الآن؟! المزيد من مقالات وفاء محمود