بداية الحضارة بناء الأهرامات قائل هذه العبارة المضيئة هو الفيلسوف البريطاني برتراند راسل, الذي طبع القرن العشرين بأفكاره الفلسفية, ومواقفه السياسية. ولعل أبرز ما كان يميزه هو اشتباكه الحميم بالقضايا الشائكة في زمنه ولم يردعه الثمن الباهظ الذي كان يدفعه في المعتقلات والسجون ولا تجاسر السلطات علي طرده من منصبه الجامعي الرفيع لاعتراضه علي الحرب العالمية الأولي وجنح بها الاثم, ولم تخجل من اتهامه بالخيانة! وكان اندلاع الحرب قد أذهل الفيلسوف وروعه فقد صدمته جحافل البريرية التي عربدت ودمرت ربوعا أوروبية وصار قلقا وفزعا علي مستقبل الإنسان والحضارة وبدا وكأن صحته قد اعتلت, وكان شاحبا وناحلا وهو يلقي محاضرة في جامعة كولومبيا في مستهل نشوب الحرب عام.1914 ومن شاهد برتراند راسل, في ذلك الوقت, كان يتوقع أن يموت في أي وقت, وذلك علي حد تعبير ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة ويضيف ديورانت انه شعر بالسعادة عندما رأي راسل بعد نحو عشر سنوات, وكان قد تعافي من صدمة الحرب.وهنا يشير ديورانت الي أن راسل قد مات في أتون اندلاع الحرب العالمية الأولي, ثم ولد من جديد من رماد المنطق الرياضي وهذا يعني أن الفيلسوف كان قبل الحرب, سادرا في غي ولعه الشديد بعلم الرياضيات وكان يري أن هذه العلم لا ينطوي علي الحقيقة فحسب, وإنما علي الجمال الاسمي كذلك. غير أن الجمال الاسمي لعلم الرياضيات, سرعان ما شحب إلا قليلا فقد انخرط الفيلسوف في غمار معارك الحرب العالمية الثانية, التي أشعلها النازي الألماني هتلر, ووقف الي جانبه الفاشي الإيطالي موسوليني, فقد كان الفيلسوف يدرك المخاطر الداهمة التي يمكن أن تلحق بأوروبا والعالم من جراء النازية والفاشية ومن ثم كان يؤيد الحرب ضد هتلر وموسوليني. وكانت الهزيمة الساحقة التي حلت بألمانيا وإيطاليا بمثابة انتصار شخصي لبرتراند راسل وكان هذا ارهاصا بأن الفيلسوف سيظل حتي نهاية حياته يمضي في طرقات السياسة, ويقود المظاهرات ضد الأسلحة النووية ومخاطر سباق التسلح بين الشرق والغرب في فترة الحرب الباردة التي اشتعلت بين المعسكرين الأمريكي والسوفيتي عقب الحرب العالمية الثانية. وكان برتراند راسل يمقت الخرافات الفلسفية وفتنة الحلول السهلة للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية وقد صار في طليعة المثقفين الأوروبيين المناهضين للشيوعية بعد أن زار الاتحاد السوفيتي عام1920, وأدرك أن النظام الشمولي والشيوعي يستهدف مطاردة الحرية, وتحديد إقامة الديمقراطية. والمثير للتأمل أن برتراند راسل كان يزداد تألقا, كلما امتد به العمر ولم يركن للراحة متعللا بوهن الشيخوخة, فقد ظل يقود المظاهرات المناهضة للحرب الفيتنامية عندما كان قد تجاوز التسعين ولم يكف عن النضال من أجل الحرية والسلام ومستقبل الحضارة, حتي لفظ أنفاسه الأخيرة عام.1970 ويكتمل بهاء تلك الفترة الرائعة من تاريخ أوروبا بالاشارة الي أن فيلسوفا عظيما آخر هو الفرنسي جان بول سارتر, كان يشاطر راسل توجهاته الفكرية في زمن صعب وبالغ الاضطراب السياسي. إن المثقف لا يستحق هذا اللقب الرفيع اذا اعتزل قومه في برج عاجي.. فإن فعل ضاع وصار مسخا شائها ومشوها. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي