من أبزر مسلمات علم السياسة أنه لكي يتحقق استقرار النظام السياسي وبالتالي يتحقق التقدم هو ضرورة توافر عنصر , الانسجام المجتمعي بين جميع الأطراف المكونة للدولة، كي يتم الاستفادة إلي أقصي حد من التنوع في إطار الوحدة. كما أن الحكم المدني من أهم سبل تحقيق الديمقراطية والحرية في أي نظام سياسي, وتعد التجربة الماليزية نموذجا ملهما في كيفية إدارة التنوع في مجتمع متعدد الطوائف والأديان. ماليزيا دولة إسلامية, ليس بسبب أنها تطبق أحكام الشريعة الإسلامية, بل لأن بها أغلبية مسلمة, ورغم ذلك من منا يعلم أن ماليزيا الإسلامية بها أكبر تمثال في العالم للصنم الهندوسي يقع في واحدة من أهم المناطق السياحية بالقرب من العاصمة كوالا لامبور, ويحج إليه الهندوس من شتي بقاع الأرض.. فالدستور الماليزي يكفل للمواطن حق ممارسة الحريات والشعائر الدينية بسلام وتآلف. فنحو أكثر من04% من الشعب الماليزي ليسوا مسلمين. المجتمع الماليزي مجتمع متعدد الأديان فالبوذيون يمثلون نحو91% من السكان, ويمثل المسيحيون نحو9%. والهندوس نحو6%, وباقي السكان من ديانات أخري صينية مثل الكنفوشية والطاوية والسيخية وبعضهم ملحدون لادين لهم. أحكام الشريعة الإسلامية تطبق في المحاكم الشرعية فقط علي المسلمين, أما أصحاب الديانات الأخري فيحتكمون إلي شرائعهم. التنوع الإثني بشكل عام وماينطوي عليه من تعقيدات يطرح تحديات جدية أمام كثير من الأنظمة السياسية, منها من تصاعدت فيها التوترات الطائفية وأدي إلي تفككها سياسيا واقتصاديا مثلما حدث في السودان والصومال. فثمة سؤال يطرح نفسه. كيف استطاعت دولة بها العديد من الديانات المختلفة أن تخرج من أسر التخلف وتنضم إلي صفوف الدول الاقتصادية المتقدمة وتتصدر طليعة دول النمور الآسيوية الكبري؟! والإجابة هي أن ماليزيا دولة مدنية وهذا لايتعاض مع كونها دولة إسلامية, فالدولة الإسلامية ليست بالضرورة أن تكون دولة دينية, لأن الدولة الدينية يكون الحكم فيها لهيئة كبار العلماء وليس لسلطة برلمان مدني منتخب, وهو ما لاينطبق علي الحكومة الماليزية. فائتلاف الجبهة الوطنية الحاكم في ماليزيا يتكون من41 حزبا من مختلف الطوائف والمرجعيات سواء كانت إسلامية أو وثنية, وتأتي عن طريق انتخابات عامة علي مقاعد البرلمان الذي يمثل السلطة التشريعية في البلاد. فالمرجعية الأساسية للدولة الماليزية هي المصلحة الوطنية وليس تغليب مصلحة حزب إسلامي معين أو جماعة معينة تسيطر علي مقاليد الحكم, فقد أدركت الإدارة في ماليزيا أن إرساء دعائم مؤسساتية مرنة تستجيب لمتطلبات النسق الاجتماعي كفيل بتحقيق استقرار النظام, كما أدركت الإدارة الماليزية الحكيمة أنه كلما كانت هناك فاعلية في سيطرة المجتمع علي موارده وإمكاناته من خلال سياسات تنموية واعية. كان من شأن ذلك أن يوجد حلولا للصراعات الاجتماعية والسياسية مهما تكن مختلفة متفرقة, ومايستحق فعلا الذكر والثناء, هو أن الحكومة الماليزية عندما عملت علي إعادة توزيع الثروة بين الملايو المسلمين وغيرهم من الأجناس بعد استقلالها عام7591, لم تتخذ إجراءات عدوانية ضد الصينيين وإنما استغلت عوائد النمو الاقتصادي ذاته في تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للملايو, وهو الأمر الذي ترجمه حرص القيادة الماليزية علي عدم تهديد المصالح الاقتصادية للأقلية الهندية والصينية من خلال وضع سياسات عامة غير متطرفة ومثيرة للخلاف, وبالتالي قضاؤها علي فرص اشتعال الصراع العرقي. فقد نجحت ماليزيا في أن تنتهج فلسفة التوزيع التحكمي للقيم بشقيه المادي والمعنوي وهو ماأوصلها لأن تكون الدولة الإسلامية الوحيدة بين دول النمو الآسيوية. وحققت ماليزيا المعادلة الصعبة بعد أن أدركت أن التنمية لكي تكون ناجحة يجب أن تبتعد عن مفهوم الانكفاء والعزلة عن كل ماهو مختلف, فإن هذا لم يعد ممكنا في وقت سقطت فيه الحدود وتلاشت فيه القيود. فقد نجحت ماليزيا في أن تنقل الولاء بطريقة سلمية إلي الوطن بمعناه الشامل وليس لشخص معين أو حزب ديني أو جماعة, فالدين لله والوطن للجميع.