هذه العبارة قالها السيناتور الجمهوري الأمريكي والمرشح الرئاسي الأسبق جون ماكين في ختام زيارته لمصر علي رأس وفد من الوزن الثقيل يضم أعضاء جمهوريين وديمقراطيين نافذين بمجلس الشيوخ, ولم يتوقف عندها أحد علي الرغم من مرور أيام علي مغادرة ماكين ووفده القاهرة, ويبدو أنها ستنضم إلي سجل زلات اللسان الشهيرة التي اشتهر بها السيناتور العجوز منذ حديثه عن تنظيم القاعدة السني في العراق الذي يتلقي تدريباته العسكرية في إيران الشيعية! معظم المعلقين الذين تابعوا محادثات ماكين مع الرئيس مرسي وكبار المسئولين وقادة المعارضة اهتموا بتفسير تصريحات ماكين وأعضاء الوفد الأمريكي, حسب الأهواء, وكأن ماكين هو المرجع والنموذج الذي يحتذي به في عالم الدبلوماسية والسياسة الخارجية, بينما ما قاله في القاهرة لا يختلف كثيرا عن التعليقات العنصرية التي صدرت عن البعض بشأن ضرورة استبعاد الأميين من التصويت في الانتخابات, وكأن تعليقات الطرفين تخرج من بوتقة واحدة! فكلمات ماكين تشير إلي أن الرجل كان يتحدث عن شيء آخر غير الديمقراطية التي تعلمناها من كتب العلوم السياسية ومن تجارب الغرب المتحضر, وهي الديمقراطية التي تأتي بالرخاء والتقدم والتنمية وتحقق حياة كريمة وتوفر رغيف الخبز, لا ديمقراطية الأثرياء والموسرين والمرفهين! ماكين ذكر هذه العبارة في معرض تبريره لتراجعه عن موقفه السابق بضرورة ربط المساعدات الأمريكية لمصر بحجم التقدم الذي تحرزه في المجال السياسي والديمقراطي, حيث قدم في القاهرة وعدا واضحا بأن يعمل في الكونجرس علي عكس ذلك, أي الموافقة علي تحرير جزء لا بأس به من المعونة الأمريكية المجمدة لمصر, وهذا أمر جيد لا جدال فيه, ويعد المكسب الحقيقي الذي حصلت عليه مصر من خلال هذه الزيارة, ولكن يبدو أن المعلومات التي تلقاها الوفد الأمريكي قبل أو أثناء الزيارة عن حالة الاقتصاد المصري دقيقة جدا وتعبر عن وضع بائس وخطير إلي الدرجة التي جعلت الرجل يشفق علي حالنا ويغير موقفه360 درجة من قضية المساعدات, أو ربما أن الجهة التي أمدته بهذه المعلومات ربما تطوعت وقدمت ما هو أكثر من التشاؤم. من حق ماكين أن يقلق علي أمن إسرائيل, فهذا من أولويات المصالح الأمريكية في المنطقة, هذا مفهوم, ومن حقه أن يمتد هذا القلق إلي الوضع في سيناء, فالموقف الأمني بالفعل يستدعي ذلك, فأمن سيناء يعني بالنسبة لواشنطن أمن إسرائيل, وإسرائيل هي السبب الأساسي وراء الزيارة وليست الديمقراطية, فالمؤتمر الصحفي الذي عقده ماكين وزملاؤه في القاهرة بعد انتهاء المحادثات والزيارة تناول في ثلثيه تقريبا قضية التصريحات المنسوبة إلي الرئيس محمد مرسي عن اليهود في عام2010, فضلا عن الالتزام بالمعاهدات الدولية وأمن سيناء, ولم تشغل القضايا الأخري بما فيها الديمقراطية سوي النذر المتبقي من المؤتمر. بالتأكيد, من حق ماكين أن يقلق علي مستقبل الديمقراطية في مصر, ومن حقه أن يكرر مطالب المعارضة بضرورة العمل علي تعديل المواد الخلافية في الدستور, ولنعتبر أن هذا ليس تدخلا في شأن مصر الداخلي باعتبار أنه عاد في السياق نفسه ليقول أيضا إن مسألة تعديل الدستور في النهاية متروكة للمصريين, ولكن الخطأ الذي وقع فيه السيناتور الأمريكي المخضرم حقيقة هو أنه نقل إلينا وإلي دول العالم النامي رسالة خطيرة ومشوشة تري أن الديمقراطية لا تناسب الفقراء والجوعي, وأنها ليست مجرد نتائج انتخابات بقدر ما هي بناء نظام سياسي شامل, فهذا الكلام مردود عليه, ولا يجب أن يمر هكذا مرور الكرام, حتي نعرف تحديدا ما إذا كان بإمكاننا المضي قدما في طريق الديمقراطية بكل عثراتها وإخفاقاتها أم أننا سنقتنع بأننا خدعنا واخترنا نظاما سياسيا لا يصلح إلا للمجتمعات الغنية! كان من الأولي لماكين أن يعرف أن عملية بناء نظام سياسي شامل في مصر ما زالت في حاجة إلي كثير من الوقت. أما فيما يتعلق بالعلاقة بين الجوع والفقر والديمقراطية, فيكفي القول إن دولا عديدة في العالم بها معدلات مرتفعة للغاية من الفقر والبطالة تعتبر من الدول المتقدمة ديمقراطيا, ففي الهند مثلا, التي يزيد سكانها علي مليار نسمة من مختلف الديانات والمعتقدات والجماعات, نجد أن الديمقراطية ثابتة وقوية وشامخة, بل إن الهند نفسها تعد من الدول الصاعدة حاليا علي المستوي الاقتصادي, علي الرغم من أن معدل الأمية فيها يصل إلي39%, وحوالي30% من سكان الهند يعيشون تحت خط الفقر, وفقا للإحصائيات الرسمية الواردة علي موقع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية علي الإنترنت, ومع ذلك لم يصادر أحد علي حق الفقراء أو الأميين الهنود في المشاركة السياسية. وفي جنوب افريقيا, لم يمنع الفقر والجوع فيها من أن تكون واحدة من قلاع الديمقراطية في افريقيا, فالمصدر السابق نفسه يشير إلي أن50% من سكان جنوب افريقيا يعيشون تحت خط الفقر, علي الرغم من أن متوسط دخل الفرد بصفة عامة في البلاد يصل إلي11 ألف دولار سنويا! ونظرة أخري علي غانا التي توصف في وسائل الإعلام الغربية بأنها نموذج ديمقراطي يجب أن تحتذي به باقي الدول الافريقية خاصة ودول العالم الثالث عامة, تؤكد لنا خطأ رؤية ماكين, فمعدل الأمية في هذا البلد الافريقي يصل إلي33%, بينما يعيش5,28% تحت خط الفقر! أما في مصر فالأرقام الرسمية وأيضا عبر المصدر السابق ووفقا لإحصائيات عام2011, تشير إلي أن نسبة الأمية28%, وتصل النسبة بين الإناث فقط إلي63%, بينما يعيش20% من المصريين تحت خط الفقر! إذن.. سيناتور ماكين: الديمقراطية التي سمعنا عنها حق للجميع, فهي لمن يجد قوت يومه ومن لا يجد, لمن يعرف ومن لا يعرف, هي نظام يحترم فيه الجميع اختيارات الآخر, ولا تدار شئونه بالصوت المرتفع ولا باستخدام الفزاعات. فالديمقراطية إذا استثني منها أحد تصبح بالتأكيد شيئا آخر تماما غير الديمقراطية. سيناتور ماكين: لسنا نحن الذين ينبغي أن نصحح لك معني الديمقراطية!!