(1) قالوا عن قريته أم القري, كبيرة وواسعة, وفيها أشياء كثيرة لا وجود لها في غيرها من القري أو العزب والكفور والنجوع, تلف داير الناحية, وتصل إلي مربط البهائم علي رأس الغيط والساقية بالتوك توك , يسأل الفلاح جاره عن موعد الري بالموبايل, لكن مصري لم يجد شغلانة وسط الزحام الذي هبط علي أم القري, سمع شيخ الجامع يقول: الإيد البطالة نجسة سأله: وأين الشغل يا مولانا؟ طرده الشيخ شر طرده. (2) باع وباع وباع حصيلة البيع صرها في منديل, ولف به وسطه, وقرر أن يترك أم القري إلي أم المدن أمهات في كل مكان, ومصري لا يشعر وسطهن سوي باليتم, فلوسه حول وسطه وعنوان قريبه, ابن عم المرحومة أمه لزم مكتوب في ورقة معه, ولم يجد في نفسه رغبة أن يلتفت لأم القري ليقول وداعا. (3) قريبه لم يتمكن من مساعدته, ما تحتاجه الدار يحرم علي الجامع, أولاده وبناته بلا عمل والشقة لا تسعهم, والطعام لا يكفيهم, ثم أنه لا يتذكر المرحومة أمه التي يقول إنها بنت عمه لزم, سأله عن أي أموال معه, طلبها منه ليخبؤها له في مكان أمين, لأن أهل أم المدن يسرقون الكحل من العين, قرر قراره أن يترك دار قريبه وبلدياته, وأن يجرب حظه وحيدا هذه المرة, لم تقدر قدماه علي حمله, إنها الاتوبيسات الكبيرة, خاف أن يقترب من الصغيرة, أجرتها غالية, رغم أنه يعرف خط سيرها من نداءات الأولاد عليها. (4) بلد لا أول له ولا آخر, بر بأكمله تجول في أحياء ما كان يعرف أسماءها, كهارب وأنوار وزحام, كأنه يوم الموقف العظيم, ونساء عرايا يسد لحمهن الأبيض وجه الشمس, كله كوم وبنات البندر وحكاياته معهن لم يأت أوانها بعد, كل من علي يمينه أولاد الحلال, وكل من علي شماله أولاد الحرام, واحد ابن حلال مصفي اصطحبه للمعلم في حوش كبير أخذ بطاقته وسلمه عربة يد صغيرة, يوم يسرح بالذرة يشويها, ويوم بالبطاطا, وثالث بالتين الشوكي يقشره للزبائن, لم يعد يشعر بأصابعه, إن باع الذرة المشوي والبطاطا المشوية لسعته النار, وإن قشر التين عاد وأصابعه غابة من الشوك يعود آخر الليل مهدود الحيل يحاسبه المعلم يأخذ منه ما معه, ماذا ستأخذ الرياح من البلاط؟ إيجار العربة ثمن البضاعة. مكسب المعلم ما يتبقي له لا يكفي طعامه. (5) الفلوس التي حول وسطه تناقصت وأوشك أن يصل لآخرها شغلانات كثيرة عرضت عليه بواب عمارة رفض. لم ينس أنه يقرأ ويكتب. وأن له أصلا وفصلا, صبي مكوجي. قال لا. صبي قهوجي. الفوطة علي كتفه والمريلة فوق ملابسه. والسيجارة خلف أذنه, ألف لا. ينظف الشقق باليومية. كاد أن يمسك في خناق من عرض عليه الشغلانة, خدام. تف من بقك, مع أنه لا أحد يعرفه في هذه البلاد. ميزة أم المدن اتساعها وضخامتها شارع سلمه لشارع حتي وجد نفسه في مكان يقولون له مصر الجديدة, هل كان إذن في مصر القديمة, وهو لا يدري؟ ما رفضه من فرص العمل وما تركه وراءه وجده في انتظاره؟ ولم يكن علي لسانه غير كلمة لا. (6) تعبت حتي عظامه أخرج فكرة الرجوع للبلد من رأسه, لن يرجع إلا بعد أن يصبح كبيرا راكبا سيارة لم ترها أم القري من قبل, وجد سراية محندقة من دور واحد, حولها جنينة ترد الروح, ها هي الخضرة والماء, لم يبق سوي الوجه الحسن, هنا يمكنه أن يعمل حارسا للسراية التي لا حد لجمالها جلس تحت شجرة علي الرصيف, عينه علي السراية ما أن تطل ابنة أصحاب السراية حتي يبرز لها, تعبان ومبهدل, ولكن الراحة ستعيد له نضارته, من يدري ربما يستعيد جماله الرجولي الذي كان يتميز به في قريته البعيدة. (7) مر وقت طويل, ولم يظهر صريخ ابن يومين في السراية, اقترب أكثر, لافتة زرقاء مكتوب عليها: فيللا سندس. الله..... الله... أمسك بطوبة ورماها في الجنينة, إظهري وباني عليك الأمان, لا حس ولا خبر, وطوبة ثانية, ثم ثالثة, هل معقول أن هذه الجنة مهجورة؟ والجنة من غير ناس ما تنداس. لا. قد تنداس لخلوها من الناس بعد أن تأكد من خلو المكان حتي من كلب الحراسة, واكتشف قفلا كبيرا علي الباب الخارجي, قرر أن يجرب حظه, مكان آمن مهجور يأويه حتي يتبين أمره, ويعرف مصيره, يا سلام لو وجد غرفة الحارس مفتوحة, ودورة مياه وسرير ينام عليه, قفز من فوق السور الذي كان منخفضا فركة كعب وأصبح بداخل السرايا نفسها شرفتها قريبة من أرض الحديقة. كلما تقدم أكثر, ولم يعترضه أحد قل حذره, وزادت سعادته, لأول مرة منذ أن وصل إلي أم المدن, مد يده علي الباب الزجاجي الذي يفصل الشرفة عن داخل السراية, فانفتح, هل تتحقق الأحلام هكذا... خشي أن يصيح افتح يا سمسم, فتنفتح له كل الأبواب المغلقة, ليست مغارة علي بابا, وهو لن يحتاج ل43 حرامي معه لحمل ما فيها. المزيد من مقالات يوسف القعيد