يكثر الحديث في هذه الأيام عن غزو الدراما التركية للسوق الجماهيرية المصرية.. وكان قبلا قد شمل الدراما السورية.. وبرغم أن هذه الظاهرة لها أسباب عديدة, فإن السبب الرئيسي يرجع إلي أن الدراما التركية أو السورية تضع في اعتبارها أن مشاهدا آخر غير تركي أو غير سوري سوف يشاهدها.. وهذا يعني أن مزاج المشاهد الآخر يوضع في الاعتبار.. ناهيك عن مشكلاته الحياتية. ولا أنكر أن الدراما المصرية قد مر زمان عليها وهي تطلب هنا وهناك, ويمكن أن تشاهدها في المشرق العربي أو المغرب العربي أو الخليج العربي وكانت مطلوبة هنا وهناك. السؤال الآن هو التالي: هل كان صناع الدراما المصرية يعرفون أن هناك مشاهدا آخر غير مصري سوف يشاهد أعمالهم؟ أشك كثيرا في ذلك.. لأن معظم هذه الدراما لم تضع في اعتبارها هذا المشاهد.. وحسب صناعها أن يفكروا في شيء واحد هو المال.. وفقط لا غير.. ولم يعرف هؤلاء أن الطلب علي الدراما المصرية سوف لا يظل إلي الأبد.. وإنما سيأتي زمان عليها لن يطلبها أحد.. لأن إنتاجها سيكون سيئا من ناحية, ولأن الصغير سوف يكبر في يوم ما, أو لأن دراما أخري سوف تكتسح العالم العربي, وهو ما حدث أولا مع الدراما السورية, وثانيا وحاليا مع الدراما التركية, أما الدراما المصرية فقد انتهي زمانها!! وهنا يكمن الفرق بين الدراما المصرية والدرامات الأخري, بمعني أن صناع الأولي لم يفكروا في هذه اللحظة وحسبهم أن أفرغوا الدراما المصرية من معناها.. فلا محتوي.. ولا رسالة تنويرية.. ولا خطاب ثقافي اجتماعي من أي نوع.. أما الدرامات الأخري فهي صاحبة رسالة قبل كل شيء.. ويكفي أن استطلاعات الرأي أكدت أن عددا كبيرا من الجماهير الذين شاهدوا الدراما التركية يحفظون عن ظهر قلب أبطال هذه المسلسلات.. ويعتزمون زيارة تركيا سياحيا.. أريد أن أقول إن هذا لم يكن يحدث لولا هذه الدراما. لقد أضاعت مصر فرصة, مع فرص أخري, فبعد أن كانت سباقة في القوة الناعمة, وتحققت لها الريادة في الثقافة والفكر والأدب وتحتفل بمرور001 سنة سينما وأكثر, أصبحت كالركام, أو الكم المهمل لا يطلبها أحد.. لأنها باختصار عاشت لا تفكر في رسالتها التنويرية, وكانت أشبه بمن يسير في طريق طويل ولا ينظر إلا تحت قدميه. وأذكر أني التقيت في باريس بمخرج جزائري كان يقدم عرضا سينمائيا في معهد العالم العربي, وما إن علم أني من مصر حتي صب جام غضبه علي, وفحوي انتقاده أو قل هجومه أننا في مصر لا نشاهد الإبداع السينمائي الجزائري, وقال إننا نباعد بين الشرق الأوسط ودول المغرب العربي, فقديما كانت دار المعارف في مصر تنشر لعدد من المبدعين المغاربة مثل مالك بن نبي, ومحمد عزيز الجبالي, كما كانت المجلات تنشر بعض إبداعاتهم.. أما اليوم فلا أحد يعرف ماذا يدور في المغرب أو تونس أو الجزائر. ثم صمت الرجل لحظة ثم أضاف يقول: الفيلم الأمريكي أو الإنجليزي يتم دبلجته في مصر لكي يشاهده الناس, لماذا لا يتم عرض الفيلم المغاربي بعد دبلجته ونزول الترجمة بالعامية المصرية علي حواراته؟ ثم أضاف يقول: إن مشكلة اللغة التي يتحجج بها الناس في مصر وهي أن أحدا لا يعرف اللهجة الجزائرية.. ستكون قد انتهت إذا قمتم بالدبلجة.. فلماذا تصرون علي عدم معرفة ما يدور داخل المغرب العربي الكبير؟ وما ينطبق علي المغرب يمكن أن ينطبق علي المشرق.. فاللهجات تقف عائقا في فهم ما يدور فيها من حركات إبداعية. إن مصر تحديدا بسبب الأغاني وأفلام إسماعيل ياسين كانت لهجتها مفهومة, ويتكلمها كثيرون.. لذلك جاء الإنتاج السينمائي معروفا, ومطلوبا لبعض الوقت.. لكن أرجو أن تعتقد هكذا قال الرجل أن هذا الحال لن يستمر طويلا, فإما أن تنفحتوا علينا, وتحاولوا فهم لهجاتنا وإلا فإن الركب سوف ينساكم وحدكم علي الطريق. وهذا ما حدث بالفعل, وأكاد أقول لقد خسرت مصر القوة الناعمة مثلما خسرت دورها القيادي في السياسة وفي الاجتماع, وأصبحت مجرد دولة بين دول بسبب التصلب في شرايينها لنحو ثلاثين عاما أو يزيد. إن التحدي المفروض علي مصر الآن هو تحد من نوع جديد.. إذ ليس فقط العودة إلي القمة والقيادة التي بعدنا عنها طويلا, ولكن أيضا لابد من المحافظة علي هذه الأماكن, كما لابد من التفكير في الشعوب العربية.. إنني أكاد أشعر بسعادة عندما أجد بعض الفنانين المصريين يغنون بالشامي أو اللبناني أو الخليجي.. مثلما هم يغنون بالمصري.. إن مصر الآن علي المحك, فإما أن تكون أو لا تكون.. والكينونة لن تتحقق لمصر ما لم توقن أنها تعيش وسط العالم العربي, فمصر لن تكون مصر التي نعرفها دون العالم العربي.. وهذا الأخير لن يكون بغير مصر.. ولذلك المطلوب منا أن نقترب أكثر من الدول العربية.. وأن نتفهم لهجات هذه الدول, وأن نعرض في بلادنا إنتاجهم الأدبي والإبداعي والسينمائي مثلما يعرضون بين شعوبهم إنتاجنا وإبداعنا أيضا.. المزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي