شهدت سوق الصرف المصرية اضطرابا شديدا أعقبه تحول البنك المركزي من تحديد سعر الصرف الأساسي الذي تحاذي عليه البنوك ويكون لديها هامش محدد للحركة أعلاه أو أدناه في حدود ضيقة محددة سلفا وهو ما يطلق عليه التعويم المدار, إلي عروض البيع والشراء في السوق ليتحدد السعربناء علي العرض والطلب. وهذا التحول يعني بدء التعويم الكامل للجنيه( تحديد سعر صرفه مقابل العملات الأخري بناء علي التفاعل الحر تماما بين العرض والطلب عليه), ولو أقر البنك المركزي قاعدة قابلية تحويل الجنيه في كل العمليات الجارية والرأسمالية والتحويلات, يكون التعويم قد اكتمل. وإذا كان الجنيه قد بدأ في التراجع قبل هذا الإجراء وسط توقعات وتسريبات بقرب اتخاذه باعتباره أحد الشروط المعتادة لصندوق النقد الدولي عند إقراض أي دولة, وفي ظل إشاعات حول حدوث اختلاف بين الحكومة ومحافظ البنك المركزي, الذي قبلت استقالته قبل ثلاثة أيام فإن الإقدام الفعلي علي هذا الإجراء أدي للمزيد من تراجع الجنيه, ليفقد نحو10% من قيمته مقابل الدولار والعملات الحرة الرئيسية في أقل من شهر. وقبل تناول تأثيرات هذا التراجع, لابد من الإشارة إلي أن استمرار منهج عدم شفافية الحكومة فيما يتعلق بشروط اتفاقها مع صندوق النقد الدولي, يشكل امتدادا لسلوك حكومات مبارك في هذا الصدد وبصورة أسوأ, فضلا عن أنه يمكن القريبين من السلطة ممن يعلمون قبل غيرهم بما سيجري أو سيتم الاتفاق عليه, من الاستفادة والتربح علي حساب من يعلمون متأخرا, وهي صورة من صور الفساد. والحقيقة أن توقيت هذا التعويم للجنيه المصري جانبه التوفيق, لأنه يأتي في ظروف تدهور الاحتياطي الذي لا يزيد عن تغطية الواردات لمدة ثلاثة أشهر وهو وضع حرج حسب توصيف البنك المركزي له, كما أنه يأتي في ظل العجز الكبير في الميزان التجاري والذي وصل إلي31.7 مليار دولار في العام المالي2012/2011, وعجز ميزان الحساب الجاري( ميزان التجارة السلعية والخدمية والتحويلات) الذي بلغ نحو7.9 مليار دولار في العام المالي المذكور والذي كان من الممكن أن يصل إلي نحو25 مليار دولار لولا تحويلات العاملين في الخارج التي شكلت طوق النجاة لمصر في العام المالي الأخير. والتوقيت غير ملائم أيضا في ظل استمرار تيار تهريب الفاسدين لثرواتهم للخارج بعد تحويلها لعملات حرة, وفي ظل استمرار البورصة المصرية بلا ضوابط بما يمكن المضاربين الأجانب من تحويل أرباحهم الطفيلية فيها للخارج بعد تحويلها لدولارات أو عملات حرة بلا قيود بما يستنزف احتياطيات مصر من العملات الحرة. ونفس الأمر ينطبق علي الشركات الأجنبية التي تحقق أرباحا احتكارية هائلة بالذات في قطاعي الأسمنت والأسمدة والتي تحول كل أرباحها الاحتكارية بعد تحويلها لعملات حرة دون أي ضوابط. والتوقيت غير ملائم أيضا في ظل تصاعد تيار استيراد الخارجين علي القانون والمجموعات الدينية المتطرفة للأسلحة من ليبيا ودول الجوار الأخري بصورة غير مشروعة, إضافة إلي الاستيراد غير المشروع للمخدرات بما يستنزف رصيد مصر من العملات الحرة في تجارة إجرامية ويساهم في تخفيض سعر صرف الجنيه بلا مبرر مشروع. وفي ظل هذه الظروف المشابهة كثيرا لظروف المكسيك في بداية عام1995 والتي أدت لأزمة كبيرة آنذاك, فإن سوق الصرف سوف يتحول لنفق أسود يبتلع تدفقات النقد الأجنبي ويدفع في اتجاه تراجع الجنيه المصري بصورة غير مبررة. وسيعتمد المدي الذي سيصل إليه هذا التراجع علي حجم التدفقات الداخلة لمصر من النقد الأجنبي وعلي نتيجة ميزان الحساب الجاري لمصر. ولو تمت السيطرة علي المضاربات علي العملة فإن الجنيه يمكن أن يستقر بين6.75,6.5 جنيه مقابل الدولار. أما لو خرجت تلك المضاربات عن السيطرة فإن الوضع يمكن أن ينفلت ويصبح أسوأ. وسوف يؤدي التراجع الذي حدث فعليا في سعر صرف الجنيه إلي موجة من ارتفاع الأسعار لأن كل السلع المستوردة( قيمتها352 مليار جنيه في العام المالي الأخير) وضمنها السلع الأساسية سترتفع أسعارها بنفس نسبة انخفاض الجنيه أمام الدولار وباقي العملات الحرة, وبالتالي فإن الزيادة في فاتورة السلع المستوردة وحدها ستصبح35 مليار جنيه سيتحملها المجتمع كله وبالأساس الفقراء والطبقة الوسطي, وهي بالمناسبة تزيد علي قيمة قرض صندوق النقد الدولي. وسوف يزيد العجز في الموازنة العامة للدولة نتيجة ارتفاع فاتورة استيراد السلع التموينية والقمح مقدرة بالجنيه المصري. وهذه الموجة من ارتفاع أسعار السلع المستوردة, يتبعها عادة ارتفاع أسعار السلع المحلية المناظرة لها أولا ثم كل السلع. وهذه الموجة التضخمية القادمة سيعاني منها الفقراء والطبقة الوسطي وبالتحديد كل من يعملون بأجر حيث تتحرك أجورهم بمعدلات أدني من الارتفاعات السريعة في الأسعار. وسوف تتزايد الأعباء علي رجال الأعمال الذين حصلوا علي قروض بالدولار أو العملات الحرة لتمويل استيراد الآلات والمعدات والمستلزمات الضرورية لأعمالهم, حيث سترتفع قيمة القروض مقدرة بالجنيه المصري لتضيف عليهم أعباء طارئة وغير متوقعة, مما ينذر بحدوث حالات تعثر في السداد يجب أن يستعد لها الجهاز المصرفي. وبالمقابل فإن شركات الصرافة المملوكة في غالبيتها للإخوان حيث كان بعض رموزهم ضمن تجار العملة في السوق السوداء في زمن تجريمها, سوف تتزايد ثرواتهم تبعا لجحم ما بحوزتهم من دولارات وعملات حرة. ويشير صندوق النقد الدولي عادة عند تبريره لطلب خفض سعر صرف العملة المحلية أو تعويمها, إلي أن تراجع سعر صرفها يؤدي إلي زيادة جاذبية السوق المحلية للمستثمرين والسياح الأجانب, حيث ترتفع قدرة العملات الحرة التي بحوزتهم علي شراء السلع والخدمات والأصول. وهذا المبرر لا قيمة له في الظروف الراهنة لمصر, لأن ما يعيق تطور الاستثمارات الأجنبية والسياحة هو الاضطراب السياسي والأمني وتصاعد التطرف الديني والاعتداء علي الحريات الشخصية, وبالتالي فإن هذا الإجراء قد لا يؤدي إلي أي تطور في جذب الاستثمار والسياحة. كما يشير الصندوق إلي أن خفض سعر العملة المحلية يؤدي لزيادة القدرة التنافسية للصادرات, وهو مبرر نظري لا قيمة له في حالة مصر, لأن جمود الإنتاج وضعف النمو في مصر حاليا يعني أنه ليس هناك فائض من السلع لتصديره, وأن الأفضل هو البحث عن تحريك هذا النمو والبحث الداخلي عن بدائل لقرض الصندوق وهو موضوع لمقال آخر. المزيد من مقالات أحمد السيد النجار