تقول لنا تجارب الأمم: إن هناك مهنتين تروجان في الدول الديمقراطية الحقيقية, خصوصا تلك التي تجاوزت خط الفقر. وصارت من الدول متوسطة الدخل بالمعايير العالمية المتعارف عليها, وهما مهنة المحاماة, ومهنة الصحافة, بروافدها العصرية المتنوعة من صحافة مطبوعة, وأخري إذاعية, أو تليفزيونية, أو إلكترونية, وهي التي صارت تلقب إجمالا باسم الميديا, أو وسائل الإعلام. ففي الدول الديمقراطية تكون سيادة القانون علي الحاكم والمحكوم, ويكون اللجوء إلي القضاء هو قاعدة فض المنازعات, سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية, وهذا يزيد الطلب علي المحامين, وينعش مهنة المحاماة, وفيما يخص الميديا فإنها تصبح الملاذ الآمن لممارسة حرية التعبير, خصوصا للكثرة التي لم يصل غضبها إلي المستوي الذي يدفعها لاختيار وسائل أشد وطأة, مثل التظاهر السلمي, والوقفات الاحتجاجية, والإضراب, وغير ذلك من أساليب التعبير الديمقراطي عن الرأي, وحرية التعبير كما لابد أننا جميعا نعرف هي البصمة التي تفرق بحسم بين الديمقراطية والاستبداد, ودعوني أقول علي الفور إن حرية التعبير لا تعني حرية السب والقذف, وأن صورها في الميديا قد تبدأ من المقال, لكنها تشمل أيضا الأدب والفن, وأن هذه الصور تستمد قيمتها مما تضيفه إلي المجتمع والدولة من قوي دافعة إيجابية. وإذا أردت أن أستفتي هذه الرؤي النظرية في حال مجتمعنا الراهن, فسوف أكتشف لا محالة أننا لانزال للأسف في مفترق طرق ولم نبدأ السير بعد أو حتي الحبو علي طريق الديمقراطية, وعلي صعيد آخر فإنه ما إن صدر دستورنا الجديد برغم كل عيوبه المطلوب تلافيها حتي أعلنت القوي السياسية المعارضة أنها ستناضل من أجل إسقاطه وليس تعديله كما كان ينبغي أن تقول, ورد الحكم عن طريق النائب العام( المعين بطريقة معيبة تهدر استقلال القضاء, كما يري المجلس الأعلي للهيئات القضائية نفسه, ومعه كل القضاة إلا قليلا) بتحويل ثلاثة من قادة المعارضة البارزين إلي التحقيق. لقد كنت أتصور من الحكم ومن المعارضة فور الإعلان عن نتيجة الاستفتاء علي الدستور ما لم أجده حتي الآن, كنت أتصور أنهما يدركان معا أننا لا نزال في مرحلة تحول ديمقراطي, وأن هذه المرحلة تفرض علينا التدافع وليس الاقتتال. كنت أتصور من الحكم بعد أن مرر الدستور أن يقترب من المعارضة, لا أن ينأي بنفسه عنها. صحيح أن الحكم يدعو إلي الحوار, ولكن هل يجوز الحوار تحت سيف الاتهام بالخيانة العظمي والتحريض علي قلب نظام الحكم؟! إن الحوار المتكافئ بين الحكم والمعارضة لابد أن تتهيأ له الأجواء المناسبة, وتلك مسئولية الحكم أولا, كما أنها مسئولية المعارضة يدا بيد, وخطوة بخطوة. كذلك كنت أتصور أن المعارضة ستنبذ طريق المقاطعة العقيم, وستتحول من أساليب الشرعية الثورية إلي أساليب الشرعية الديمقراطية, وليس المطلوب من المعارضين قطعا قبول الدستور علي حالته الراهنة, فالدستور معيب, أو هو بالحد الأدني حمال أوجه, ولكن المطلوب تعديله وليس إسقاطه. كنت أتصور أن المعارضة ستنسي ما آل إليه حالها في عهد مبارك عندما تدجنت وتحولت إلي ديكور, وستواصل البناء علي ما تحقق لها في الشارع منذ25 يناير2011 حتي الآن, وهو ما كشفت عنه انتخابات الرئاسة بمرحلتيها, وكشفت عنه نتائج الاستفتاء علي الدستور برغم ما شابها من مخالفات, فمن الواضح لكل ذي عينين أن جماهير المصريين صدمت في مستوي أداء الأحزاب المنتمية إلي ما يسمي تيار الإسلام السياسي عندما أوصلوها إلي الحكم بإرادة حرة في انتخابات الشعب والشوري والرئاسة, فلم تقدم لهم حتي الآن ما يجعلهم يشعرون بثمار انتفاضتهم الكبري في25 يناير.2011 وبوضوح شديد فإنني لا أدعو إلي هدنة بين الحكم والمعارضة كما يقول البعض, فهذه في رأيي دعوة بائسة, بل وخبيثة, إننا ياسادة لسنا في حرب, ولا نقاتل, وإنما نتدافع, ولكي يثمر التدافع ثمرة إيجابية يجب أن يكون الحكم حكما ديمقراطيا, والمعارضة معارضة ديمقراطية, وأن نحترم ثقة الشعب فينا حكم ومعارضة, بأن نجعل صندوق الانتخاب هو الفيصل, وإذا أردنا أن نغير فلنغير بأساليب الديمقراطية, وهي كثيرة, وأولها الالتحام بالناخبين وليس بأساليب الاستبداد, أو أساليب الترويج للفوضي, وهدم المعبد علي رءوس الجميع. ويا أيها السادة في الحكم والمعارضة.. انتبهوا.. فالنسبة التي صوتت علي الدستور في حدود32% فقط من جملة الناخبين, أي أن68% من الناخبين سيطر عليهم اليأس من هذه اللعبة الديمقراطية, والذين قالوا نعم للدستور لم يقولوها لمصلحة الدكتور مرسي وأحزاب ما يسمي الإسلام السياسي, وإنما قالوها لأنهم تعبوا جدا من انتظار أمطار الخير التي لاتجيء, والذين قالوا لا لم يقولوها حبا في عيون المعارضة, وإنما نفورا من الحكم الذي يعد ويخلف ما وعد, لذلك أقول: لقد صار الحكم والمعارضة معا في الميزان, وأرجوكم.. اقرأوا الصورة علي هذا النحو, وتذكروا أن وطننا الجميل مصر, وشعبنا الطيب الحكيم الصبور يستحقان من الحكمة والمعارضة معا, ما هو أفضل. أنني أسمع أنين الشعب العظيم, فأصغوا السمع معي قبل أن يتحول هذا الأنين إلي زئير لن يستطيع أن يوقفه أحد؟! المزيد من مقالات عبداللطيف الحنفى