.. حدد لي روجيه جارودي موعدا في بيته خارج باريس وشرح لي كيف أصل إليه في عليائه! و علياء هنا مهمة لآل بيت الرجل الذي يشبه الفيلا يقع علي جبل عال وسط المزارع ولا تحيط به منازل أخري.. والبيت يقع في ضاحية شامبيون التي كنت أعرفها وسبق أن زرتها قبلا فقد كان يسكنها د. رأفت فوده وزوجته الفرنسية ايزابيل الذي أصبح بعد ذلك رئيسا لقسم القانون الدستوري بكلية حقوق القاهرة.. كنت أسير متوجها إلي بيت روجيه جارودي, وعقلي يفكر في أول مرة سمعت باسمه, والحوار الذي أجرته احدي المحطات معه لعلها صوت الأزهر إذا لم تخني الذاكرة.. ولأنني كنت مشغولا بدراسة الامام محمد عبده, الذي اعتبره صوت العقل العملي في الدين الإسلامي, أقول كنت أري أن روجيه جارودي أكثر اشكالية من محمد عبده أو إن شئت فقل كان دون الأستاذ الإمام.. لا يمجد العقل كما يمجده ولا يعلي من شأن المصلحة العامة كما يفعل الرجل. بإختصار كنت أذهب لملاقاته وأنا أفكر في أنني سوف التقي برجل كل ما يقال عنه في مصر أنه استقر دينيا علي الاسلام بعد أن تخلي عن كاثوليكيته ثم تمرد قليلا علي المعني( الماركسية.. ووضع فيها مؤلفات شتي.. وأخيرا دخل الحظيرة الاسلامية. طرقت الباب ففتحت لي سيدة قصيرة نسبيا. وقالت لي انتظر ريثما يهبط من أعلي السير جارودي.. كانت السيدة تلبس لبسا متواضعا حتي ظننتها الشغالة..! ولأنها كانت تحب الثرثرة فلقد عرفت أنها زوجته.. وأنها تعمل مدرسة في مدينة شهل التي تقع في الضاحية الأخري لباريس.. وشاءت أقداري أن أكون في شهل وأولادي الصغار في حضانة أطفالها... .. بعد عدة دقائق هبط رجل عملاق.. ذو جسم ضخم.. وما إن حضر حتي انسحبت السيدة التي كانت تثرثر معي.. واكتشفت أن الدور الأرضي في الفيلا كان أشبه بمكتبة مليئة بالرفوف التي وقفت أمامها بينما كان يشرح لي جارودي بعض كتبه الخاصة بالعنصرية.. وفوجئت به يقول أن العرب اللبنانيين قد سطوا علي هذا الكتاب وترجموه إلي اللغة العربية ثم باعوه دون أن يحصلوا مني علي إذن أو تقديم بذلك.. واندهشت لتعليقه عندما قال: إن هذا هو شأن العرب دائما.. السطو والقرصنة..!! ثم عرفت أنه لا يعرف من اللغة العربية سوي كلمة السلام عليكم أو صباح الخير.. شأنه في ذلك شأن كل من يدعي أنه يعرف اللغة العربية! واندهشت أنه مهتم بالدين الاسلامي وحضارته وتاريخه ولا يعرف اللغة العربية التي نزل بها القرآن المجيد! ثم تطرق بنا الحديث, بعد أن جلسنا في الحجرة المجاورة عن نبي الاسلام وهالني أن الرجل يري فيه ما لا نراه.. وأول هذه الأشياء التي صدمتني هو قوله بأن النبي محمد( صلي الله عليه وسلم) لم يكن شخصا أميا.. بل كان رجل أعمال ناجحا بمعايير عصره.. وأضاف: في عصرنا الحالي لا يمكن أن تصف رجل أعمال بالناجح ما لم يعرف لغات أخري غير لغته الأم.. ويتقن البحث علي الانترنت.. ويعرف شيئا من العلاقات السياسية الدولية ناهيك عن نبوغه في التجارة البينية والاقتصاد.. لذلك, هكذا قال ألا أعتبر نبي الاسلام كما يقال عادة أمي وجاهل ولا يعرف القراءة والكتابة..! أقول الحق.. لم أعلق واكتفيت بتوجيه الأسئلة لكي أعرف المزيد عن هذا الرجل الذي كنت أجهله ولم يسبق أن التقيت به قليلا. أذكر اني عرفت منه أنه أعلن اسلامه في باكستان بعد أن اعتنق الديانة الاسلامية في سفارة المملكة العربية السعودية هناك.. ثم روي لي شيئا عجيبا.. قال: لم أختر لنفسي اسم رجاء.. وإنما عندما ذهبت إلي السفارة, جاءوا بأحد المشايخ وظل السفير وعدد من الدبلوماسيين يتحدثون معه.. بعد أن طلبوا من جارودي أن يجلس بالقرب منهم. وبعد نقاش يبدو أنه كان طويلا قرروا اطلاق اسم رجاء علي الرجل باعتبار أن اسم رجاء أكثر الأسماء قربا من اسمه الأصلي روجيه!! وعرفت أنهم قاموا بتعريب اسمه علي هذا النحو لكي يكتبوا اسمه الجديد في الشهادة الممهورة باسمهم والتي تشير إلي أن الرجل اعتنق الدين الاسلامي.. وقد تعجبت من روجيه جارودي وهو يقول معلقا: فوجئت بأن اسمي أصبح رجاء لا روجيه.. وأدهشت أنهم يربطون الاسلام بالعروبة.. فمن قال إن الدين الاسلامي الذي جاء للناس كافة.. يدخله من يشاء وقتما يشاء هو دين جاء خصيصا للعرب.. بمعني آخر لماذا يصر السفير وزملاؤه من الدبلوماسيين علي الباس الدين الاسلامي جلبابا وعقالا.. ثم ما الذي يمنع أن يكون اسمي روجيه.. وأن أحتفظ باسمي الفرنسي عندما أعتنق الدين الاسلامي.. أليس ذلك ترجمة حقيقية للدين الاسلامي الذي خلق للناس كافة واندهشت أكثر عندما قال روجيه جارودي, كنت أرجو أن يتركوا اسمي كما هو دون تغيير أو تبديل.. فماذا يمنع من أن يكون اسمي الفرنسي روجيه.. واسم غيري صيني.. واسم ثالث باكستاني واسم رابع افريقي.. ثم ندخل جميعا الدين الاسلامي بأسمائنا! .. أشهد أنه لقد باعدت بيننا الأيام.. حتي التقيت بجارودي في معرض الكتاب بالقاهرة فكتبت عن الندوة التي أقامها.. وهالني أن عاد أكثر وجدانية وغابت لغة العقل عنه فتحدث عن الدين الاسلامي حديثا غيبيا غير مثمر. ولاشك في أن أفكاره الجامدة قد راقت الكثيرين لكن أقول الحق لقد ظل الأستاذ الامام نبراسا هاديا للعقل, والعقلانية بينما فضل جارودي أن يكون جوانيا من ساسه لراسه مثل صاحب المذهب.. عثمان أمين. وأخيرا.. إذا خطر ببالي جارودي سألت نفسي: لماذا أخفي علي جارودي زوجته الفرنسية ولم يعرفني بها؟ ثم ما سبب تحوله من العقلانية إلي الجوانية في فهم الدين الإسلامي.. انها أسئلة ستظل تبحث عن اجابة. المزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي