عندما وجدتني في قرطبة أثناء رحلة صحفية لأسبانيا في عام2000 كنت الحريصة علي زيارة متحفه الإسلامي بها الذي جمع محتوياته المتفردة بنفسه حبا وتفهما وإجلالا للإسلام وتمجيدا لتاريخ الحضارة الإسلامية بهدف تعريف الغرب بالإسلام الحقيقي المختلف تماما عما تقدمه لهم وسائل الإعلام المغرضة.. روجيه أو رجاء جارودي الفيلسوف الفرنسي المسلم الذي ولد في17 يوليو1913 في مرسيليا بجنوبفرنسا, واعتنق الإسلام في عام1982, وتوفي يوم الأربعاء الماضي في باريس عن عمر يناهز98 عاما, قام بتحقيق حلمه في إقامة متحفه التاريخي الإسلامي الذي يزوره كل عام أكثر من100 ألف زائر من أنحاء العالم وذلك بترميم قلعة قديمة في قرطبة يعود تاريخها للقرن الثاني عشر لتضم بين محتوياتها معرضا لكتب التراث والمخطوطات لتذكير الأوروبيين بأن العرب هم الأوائل في جميع المجالات الطب والهندسة والجبر والجغرافيا والفلك والكيمياء الخ وأول من أدخلوا صناعة الورق إلي أوروبا وكانت أحد أسرار ازدهار الحضارة العربية, ففي الوقت الذي كانت مكتبة الحكم الثاني أحد ملوك الأندلس تزخر بأكثر من600 ألف مخطوطة كانت أكبر المكتبات الأوروبية لا تمتلك أكثر من مئتي مخطوطة فقط.. وفي القرن التاسع عندما كانت أوروبا لا تعرف القراءة افتتح الخليفة المأمون في بغداد بمساعدة جيش من الكتاب والمترجمين مكتبة ضخمة هي دار الحكمة كان يحفظ فيها جميع آثار الحضارات القديمة.... في قلعة جارودي شاهدنا بانوراما الحياة الأندلسية في أجواء الموسيقي الموحية المصاحبة للغات العالم ليعيش زوار جارودي في أجواء حضارة إسلامية أندلسية مكثت لعدة قرون قال عنها جارودي: إن ما يطلقون عليه غزو أسبانيا لم يكن غزوا عسكريا فقد كان عدد سكانها في ذلك الحين10 ملايين بينما لم يزد عدد الفرسان العرب علي70 ألف انتصروا بفضل تفوقهم الحضاري. متحف قرطبة الإسلامي يضم مؤلفات جارودي التي بلغت40 مؤلفا تعكس تحولاته ومتغيرات القرن الذي عاشه ووصوله إلي الإسلام بعد رحلة طويلة عبر الايديولوجيات والعقائد, حيث يتوقف طويلا في كتبه عن الإسلام عند دور ابن خلدون والرازي وابن سينا وابن الهيثم وابن النفيس وأحمد بن ماجد والإدريسي وغيرهم, حيث يقول: بينما كان الغرب لا يعرف في علم التاريخ غير التأريخ, وتسجيل الأحداث, جمع ابن خلدون بين الملاحظة الشخصية لرجل السياسة والتأمل النظري, ثم تميز بروحه التي تبحث وراء الظواهر عن الأسباب, وفي كتابه وعود الإسلام يقدم جارودي حقيقة بلوغ الطب الإسلامي ذروته منذ القرن الثامن, بينما كانت الكنيسة المسيحية قد جمدت منظور الطب, ففي مجمع لطران عام1215 قرر البابا أونيست الثالث أن يحرم علي كل طبيب علاج أي مريض ما لم يعترف أولا, لأن المرض في الأصل هو نتيجة لارتكاب الخطيئة, وظلت باريس في جامعتها لا تملك أي مؤلف في الطب يلخص علومه من العصور القديمة حتي عام925 مثل كتاب الرازي الذي بقي المرجع العلمي المعتمد الوحيد خلال10 قرون, وإذا ما كانت ريادة ماركو بولو قد أذهلت الغرب فقد ثبت علميا أن عربيا قام قبل ماركو ب425 سنة برحلة إلي الصين بلغ فيها كوريا واليابان.. ويؤكد جارودي في كتابه الإسلام يقطن في مستقبلنا بقوله لابد من تبديد أسطورة المركزية الأوروبية, فلقد أثرت الحضارة العربية الإسلامية خلال ألف عام في الماضي واستقرأت المستقبل.. روجيه جارودي الذي زار مصر في عام70 ليلتقي الرئيس جمال عبدالناصر, عاد ليزورها في يناير83 بدعوة من الأزهر لحضور الاحتفال بعيده الفضي, ومن جديد كان ضيفا علينا في عام96 ليلتقي بأسرة الأهرام وأعضاء نقابة الصحفيين ليصرح لحظة وصوله في مطار القاهرة برفقة زوجته الثانية سلمي تاج الفاروقي بأن مصر هي البلد الوحيد الذي يمكن أن يذيع فيه جميع الحقائق بصوت عال وبحرية كاملة!!!! وبالفعل تحدث في قاعة اجتماعات الأهرام عن إسرائيل وقدمها عارية لا تسترها أساطير ولا ادعاءات ولا أكاذيب, قائلا إن المطلب الوارد في التوراة عن إسرائيل الكبري من النيل إلي الفرات قائم علي قراءة متطرفة للتوراة, وأن الصهيونية ما هي إلا بدعة ودولة إسرائيل كبدعة أطلقها هيرتزل, ووضع فارقا كبيرا بين اليهودية كدين اعترف به الإسلام ويعترف به المسلمون, والصهيونية كحركة عنصرية سياسية هدفها السيطرة.. وأكد جارودي أن ما قيل عن مذابح اليهود علي أيدي النازي, وما أشيع عن غرف الغاز ليس من الحقيقة في شيء بشهادة مهندس أمريكي متخصص اكتشف زيف أمر تلك الغرف وأعد تقريرا توضيحيا بذلك, لكن التقرير الذي وضع داخل الأدراج لتأكله الفئران, أكد أنه لم يكن من الممكن قتل فأر بالمعدات الموجودة في معسكرات الاعتقال الألمانية وليس لملايين اليهود.. وقامت الدنيا ولم تقعد بمحاضرة جارودي وعرض كتابه أساطير مؤسسة للسياسة الصهيونية في الأهرام حيث اتهمته صحيفة ليبراسيون الفرنسية بمعاداته للسامية, وسعدت الأهرام بكونها قلعة للدفاع ضد الاضطهاد الصهيوني الذي يبيح لإسرائيل قتل الأبرياء واحتلال أراضي الغير بالقوة, وتحدي الإرادة الدولية. وينتهز جارودي فرصة وجوده بالقاهرة ليأمل في زيارة الكاتب الكبير نجيب محفوظ, فيتم لقاء القمتين علي ظهر باخرة تتهادي علي صفحة النيل ليشهده سعد الدين وهبة رئيس اتحاد الفنانين العرب والأديبان جمال الغيطاني ويوسف القعيد وسلمي الزوجة الفلسطينية.. اللقاء الذي بدأه رجاء بشعوره بالامتنان لتلقي فيض الضيافة من أحفاد أخناتون, وذي النون ومحمد عبده اللذين يدين لهما بجزء كبير مما عرفه عن الإسلام, إلي جانب ما قام بتحصيله إسلاميا من تفسير الطبري والزمخشري وكتاب المثنوي للإمام جلال الدين الرومي.. بدأ الحوار حول أهمية الحوار بين الحضارات, ويؤكد جارودي لنجيب بأن زيارته تلك هي الزيارة السادسة لمصر, فقد جاء إليها أكثر من مرة عندما قام التليفزيون الألماني بإخراج فيلم عن حياته حرص المسئولون فيه علي تصوير الجزء المتعلق بالإسلام في مصر, حيث تم تصوير الكثير من المشاهد في حي الأزهر وخان الخليلي والأهرامات والمناطق الأثرية في أسوان وتل العمارنة.. ويسأل جارودي نجيب: هل مازلت تمارس الكتابة؟, فيجيبه محفوظ بدعابة رسمت حزنا علي وجه المفكر الفرنسي: أكتب اسمي فقط مرتعشا بعد الحادث الذي تعرضت له.. ويضطر نجيب لرواية التفاصيل أمام إلحاح الزوجة الضيفة, ويعقب جارودي: لقد قرأت جميع أعمالك المترجمة إلي الفرنسية وحاصرني إبداعك طويلا في الثلاثية والحرافيش واللص والكلاب.. ويتفق المفكران علي أن السينما هي الوسيلة الأولي للتعبير عن الأفكار وقضايا المجتمع, ويبدي جارودي اهتمامه بالأعمال السينمائية التي تقوم بتوضيح الحقائق مثل تناول ظروف مقتل جون كيندي علي الشاشة الذي يعده أحد الأعمال الفنية الحقيقية القليلة في السينما الأمريكية, علي الرغم من أن إنتاج هوليوود أصبح مليئا بالفساد والعنف والجنس والخيال العلمي الأجوف.. وحول تحويل قصص محفوظ إلي أفلام وقيامه بكتابة العديد من سيناريوهات الأفلام وحواراتها, قال جارودي إنه الآخر قام بكتابة عدة تجارب لسيناريوهات أفلام قصيرة تناول إحداها حياة ومعتقدات الملكة المصرية نفرتيتي بهدف تكذيب فكرة أن مبدأ التوحيد كان من اكتشاف اليهود, حيث أراد تأكيد ظهور هذا المبدأ مع اخناتون أبو الوحدانية.. ويسأل نجيب ضيفه عن تجربته مع الرواية فيؤكد في البدء أنه لا يعد نفسه روائيا إلا أنه كتب رواية بعد ثلاثة وثلاثين شهرا قضاها في أحد معسكرات الاعتقال الألمانية, لكنها كانت أقرب إلي مذكرات معتقل منها إلي الرواية, ويضيف جارودي أنه كتب رواية أخري عن إعادة بناء فرنسا باسم يوم الخلق الثامن, وكتب ثالثة لاقت نجاحا كبيرا وترجمت إلي عدة لغات بعنوان من تظنني وكانت في الواقع تلخيصا لحياته.. وكتب عن فترة المراهقة رواية أخري بعنوان آلتي أحد أبطال الأساطير الإغريقية.. وحول مسألة النشر قال جارودي لم أكتب مطلقا بناء علي طلب من أحد, ولم أكن أجد مشكلة في النشر حتي عام82 عندما أنزل الستار الحديدي فجأة في وجهي بعد مقال لي قلت فيه إن غزو لبنان ليس مجرد خطأ بل هو نتيجة منطقية للنظام الصهيوني.. لقد كنت الطفل المدلل للناشرين حتي أن كتابي نداء إلي الأحياء تم بيع190 ألف نسخة منه, وبعد انقلاب اللوبي الصهيوني علي أفلس الناشر الوحيد الذي أقدم علي نشر كتابي المسألة الإسرائيلية!! وإذا ما كان الخيال قد أملي أكثر من سيناريو فيلم علي قلم كل من نجيب وجارودي فقد كتب الواقع أجمل سيناريو عاطفي لقصة ارتباط حضارتين وعمرين يفصل بينهما قارات وعقود.. سلمي الفاروقي الفتاة القادمة من فلسطين ابنة العشرينيات والمفكر الفرنسي الثائر روجيه جارودي الذي بلغ السبعين.. وسمعناها.. سلمي.. تغطي أحداث السيناريو بذكرياتها الواقعية في قولها: شاءت الأقدار من بعد دراستي في القاهرة السفر في عام74 إلي سويسرا حلم الخيال, ولم يكن سهلا في البداية الحصول علي عمل وإقامة شرعية, لكن الحل أتي مسالما في نفس العام عندما استعانوا بي في إنشاء المركز الإسلامي في جنيف.. وتمضي سنوات العمل وحياة الاغتراب ليأتي عام1982 بالتحديد عندما يبعث لي أحد الأصدقاء المقيمين خطابا يشيد فيه بعبقرية كتاب وعود الإسلام للمفكر روجيه جارودي, فاستحوذت صفحات الكتاب علي مشاعري لتوقظ في نفسي أمجاد الإسلام, وخطر لي تقديم صاحب الكتاب لإلقاء محاضرة عن موضوعه خاصة أنه يضم اهتماما بالغا بالقضية الفلسطينية.. ورغم المعارضة الحادة من قبل المركز الإسلامي نظرا لأن جارودي كان عضوا بارزا في الحزب الشيوعي الفرنسي, لكن ذلك لم يفتر من حماسي, وقبل جارودي الدعوة لمحاضرة حشدت لها جمهورا ضخما أتاحت له كلمات المحاضر نشوة فكرية لم ينلها من قبل.. وقتها لم أكن أمثل لجارودي أكثر من فتاة فلسطينية محجبة أتت لتستقبله علي أرض المطار بحكم عملها الذي اكتمل باستضافته مع بعض الأصدقاء للاحتفاء به علي الطريقة الشرقية. وأتي الصباح لينقل لي التليفون دعوته للغداء.. واعتذرت.. وعجبت من إصراره البالغ.. فأبديت عذري بأني صائمة, ولما لم نكن في شهر رمضان فقد أذهله صيامي في غير أيامه, فشرحت له بأن فلسفتي في الصوم تنطوي علي مبدأ أن البشر خطاء بطبيعته, ولو لم يضع المرء لنفسه قيودا وضوابط لاختل سريعا وسقط.. وهنا فقط تفهم روجيه عمق موقفي مستعينا بقصته التي رواها لي حين كان من بين خمسمائة مناضل من المعتقلين والمسجونين المقاومين للهتلرية, والذين نقلوا جميعا إلي معتقل جلفة جنوبيالجزائر: وكانت الحراسة علينا مشددة في المعتقل المحاط بالرشاشات والأسلاك الشائكة, وبالرغم من أوامر القومندان الفرنسي قمنا بمظاهرة عصيان داخل الأسوار مما أثار حفيظته فأنذرنا بإطلاق النار علينا إذا لم نعد للخيام فورا بمجرد أن يعد الأرقام إلي ثلاثة.. ولأننا لم ننصع للأوامر أمر جنوده حاملي الرشاشات بإطلاق النيران, وكان الجنود من مسلمي جنوبالجزائر الذين رفضوا جميعا الضغط علي الزناد, وأصروا علي الرفض رغم تجول كرباج القومندان الغاضب فوق أجسادهم.. وما أجدني حيا إلي الآن إلا بفضل هؤلاء المحاربين المسلمين الذين أوضح لنا أحدهم سبب رفضهم إطاعة أوامر القومندان بقوله ليس من شرف المحارب أن يطلق المسلح المسلم ناره علي أعزل.. و..تضيف سلمي: وأحسب أن تجربة تعرضه للموت وهو في الثامنة والعشرين قد هزت أعماقه هزا حين تكرر النموذج أمامه ثانية متمثلا في شخصي فقد كان للموقفين تأثيرهما العميق عليه.. وقد تكشف رؤية الموت المحقق للإنسان أسرار الحياة في لحظة. ويبلغ السيناريو الواقعي تجاه الموقف ذروته في المشهد العاطفي عند قول سلمي: قلت له مرة إن قضية التوحيد تحتل عندك كل سطر في كتاباتك وأري أنه لا ينقصك سوي النطق بالشهادتين.. ويسافر ويعود ولا تنقطع الرسائل بيننا علي مدي3 أشهر إلي أن جاء إلي جنيف لإلقاء محاضرة وطلب مني عند حضوره اللقاء لأمر قال عنه( مصيري).. والتقينا بالمركز الإسلامي, وفاجأني بنطقه الشهادتين بالعربية مما فجر أدمعي بغزارة خاصة بعد أن أكد لي أنه أراد أن أكون أول من يسمعها منه.. ومن يومها ظللت أردد عند كل سجدة: اللهم أعز الإسلام بجارودي مثلما كان الرسول صلي الله عليه وسلم يقول: اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين.. وبعدها مباشرة تقدم بالعرض المنتظر في أن أكون زوجته, فاستجبت علي الفور.. ويسألون سلمي عن ملح طبخة العمر.. الخناقات الزوجية؟!.. فتجيب حانية: أتفق معه في طبيعة القضايا التي يثيرها, وأتفق أيضا في أبعاد الحلول المطروحة من جانبه, فهو مفكر متزن يناقش بشكل تحليلي مستفيض, ولا يتعثر في الوصول إلي النتائج.. وربما خلافنا لا يتعدي فترة إعدادي للمائدة بأطباق متنوعة فيأتيني سؤاله المستنكر المستنفر عما إذا كان هناك غيري أنا وهو الجالسين إلي كل هذه الأطباق؟! وكذلك يرتفع صوته عندما أطيل في محادثاتي التليفونية مع الأهل والأصدقاء مرددا قوله الذي لم يعد يشكل لي عائقا عن متابعة الحديث: إن ثمن كل دقيقة زائدة عن المعدل في حديثك يموت فيها جوعي وجرحي.. وعموما فإن حياتي مع مفكر ثوري في وزن جارودي تمضي صاخبة وعاصفة ومليئة بالأشخاص والأحداث والأفكار والأسفار الطويلة, والجلوس إلي جانبه أقرأ له القرآن وأنقل له تفسيره من العربية فكثيرا ما يبدي انزعاجه من بعض الترجمات التي يراها غير وافية أو معبرة عن المعاني العميقة للآيات القرآنية.. وقد لاحظت كرفيقة حياة أنه لم يتأثر كثيرا بالحملة الصهيونية الشرسة التي تعرض لها من وسائل الإعلام والملاحقات القضائية المستمرة التي لم تتوقف رغم كبر سنه, وإن كان قد واجهها بروح شاب لديه أوج التحدي والصمود إلي النهاية خاصة أمام محكمة تعج بالمئات من أعضاء المنظمات الصهيونية في أوروبا, الذين تجمهروا للضغط عليه والتأثير علي أعصابه فلم يرهبوه لحظة ليدوي صوته جهوريا وسط القاعة التي حكمت عليه بالسجن6 أشهر مع إيقاف التنفيذ وفقا لقانون جبسو الاستثنائي الذي يمنع التساؤل أو التشكيك حول محاكمات نورمبرج بقوله: لم أكن أعرف أن فرنسا أصبحت يهودية.. الاضطهاد الصهيوني لم يؤثر علي زوجي فقد كان متوقعا له لكن أكثر ما تأثر به وسبب له حزنا بالغا حتي كان يبكي كالأطفال تلك الحملة التي شنها ضده بعض المفكرين والكتاب العرب التي بدأت في عام1987 واستمرت حتي نهايات العمر, والتي اتهموه خلالها بأنه ليس مسلما حقيقيا وإنما دخل الإسلام من باب الفلسفة, وأن إسلامه شيء عابر متأثر بالمستشرقين, وأنه دخل الإسلام كبيرا فلم يفهم صلة الخلافة الإسلامية العثمانية بمصر والعراق والشام, هذا رغم أنه قد نال في عام1985 جائزة الملك فيصل العالمية عن خدمة الإسلام عن كتابيه وعود الإسلام والإسلام يسكن مستقبلنا.. وتمضي سلمي التي لم تكن ترغب أبدا في أن تكون مجرد زوجة مسالمة لمفكر مسالم هادئ مستقر, فالجرئ في نظرها هو من يصنع التاريخ, وتحرك كتاباته الدنيا, وتمثل أفكاره محطة ارتكاز لدي المفكرين والساسة ورؤساء الدول وكافة النظم.. سلمي التي قالت عن رجاء جارودي ليس مثله أحد في تفاعله مع الأحاسيس والمشاعر حتي ولو لم يكن يعرف لغة صاحبها, وهو ما مكنه من ترجمة بعض قصائد نزار قباني إلي الفرنسية رغم عدم معرفته باللغة العربية, لكنه اعتمد علي شرح لمعانيها فقط, ورغم ذلك جاءت ترجمته لها سليمة ومعبرة حتي أن نزار قبل وفاته مباشرة أشاد بترجمة جارودي لقصيدته الشهيرة أنا مع الإرهاب بل واعتبرها أفضل من الأصل. ويمضي علي زواج سلمي ورجاء28 عاما يخفت في نهايتها ضجيج ماكينة الصخب في دماء جارودي الذي امتثل تدريجيا للنهاية في شامبيني سورمارن إحدي ضواحي باريس.. الكاتب الموسوعي وأستاذ الفلسفة والقارئ المحترف, وأول فرنسي يحصل علي الدكتوراه عن الحرية عام..1949 صديق الشاعر بابلونيرا وبيكاسو وبول سارتر. تلميذ الفلسفة وأستاذها. الدون كيشوت المناضل ضد طواحين الهواء الرأسمالية. نائب البرلمان الذي كان يجوب دائرته الانتخابية من فوق ظهر البسكلتة بين عمال المناجم والفلاحين.. المولع بالبحث في التاريخ القديم والحديث بمنطق علينا أن نبحث في الماضي عن الجذوة المتقدة, وألا نكتفي من الماضي بالرماد.. عاشق الحوار والتواضع النبيل للتعلم من تجارب الآخرين.. الخصم العنيف للاستعلاء وإنكار الآخر.. المولود لأم كاثوليكية وأب ملحد.. المطرود من الحزب الشيوعي الفرنسي عام1970 لانتقاداته المستمرة للاتحاد السوفيتي.. المسافر بالطول والعرض للنهل من ثقافات العالم ليدلي في النهاية بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. القائل عن تجربة الحياة: لقد حلقت فوق ذري العالم كلها.. من كاليما نجارو إلي الهيمالايا, ومن براكين جاوة وجبال فوجياما المقدسة إلي جبل اكونج في بالي.. واغتسلت في مياه بحور العالم كلها.. من المياه الثقيلة في البحر الميت إلي البحيرات الساحلية في بحار الجنوب.. ومن الكاريبي إلي المحيط الهندي.. وفي النيل وفي الأمازون وفي يامونا المتدفق نحو الجانج.. وقد اجتزت الأبواب جميعا.. من باب الهند في بومباي إلي باب الشرق في ميسوري.. ووقفت أتأمل جميع المرتفعات التي ترك الإنسان فيها آثاره من أبادانا التي شيدها كسري وأحرقها الإسكندر, إلي مدن مايا ومعابدها, إلي حشائش إيتزا في قلب الغابات المكسيكية.. ومن أطلال نينوي وبابل إلي أبواب بغداد.. وأهرام الجيزة في مصر وأهرام توتينوكان في المكسيك.. إلي مصب دجلة والفرات ومرصد أولنج بك حفيد تيمورلنك إلي سمرقند في آسيا الوسطي, ومعابد نارا في اليابان, وقباب المساجد التي تحاكي عقود اللؤلؤ من الأطلسي إلي الهند في تلمسان والسليمانية, والجامع الأزرق في اسطنبول, والمسجد الجامع في أصفهان, إلي الزيتونة في تونس, والأزهر في القاهرة, إلي تلك التي كانت نداء للحب مثل تاج محل في الهند, أو التي بناها تيمورلنك في سمرقند لمعشوقته الصينية بيبي خانون.. و..لقد ناقشت دلالة قناع أفريقي مع الشيوخ التسعة لقبائل جورو في ساحل العاج.. وناقشت الزكاة مع علماء الأزهر في القاهرة..... إن التحليق فوق الذري, والاستحمام في مياه البحار والأنهار, واجتياز الأبواب جميعها, والتأمل في القمم التي أبدعها البشر.. جميعها تجعلنا نحسن الإصغاء لأحلام البشر الذين يحيون اليوم, والمشروعات التي يحلمون بها عن المستقبل. ولأن المفكرين الأحرار في عصرنا أندر من قطع الماس فهم يرون ما لا نري, ولأنهم أحرار نراهم يطلقون صرخات التحذير لوجه الله لا لوجه آخر.. ومنهم نستطيع التعرف إلي أين نمضي وعلي أي درب نسير.. ولقد أطلق الفرنسي روجيه جارودي آخر صرخة له تقول رأيت النار تنشب في الجوار وتدفعها الريح باتجاهكم, ولم أشأ أن أموت دون أن أصرخ صرخة الإيقاظ.. افتحوا أعينكم.. ينبغي أن تكون عيونكم ثاقبة حتي تري الأفق.. علينا أن ندير ظهورنا للماضي وننظر للمستقبل.. انتبهوا لإيقاف المسيرة المتجهة نحو الفوضي!!! المزيد من مقالات سناء البيسى