ظهوره لم يكن متوقعا.. كان الاسم الذي خرج من الأدراج القديمة ليقود ايطاليا في مرحلة حرجة مرت بها اقتصاديا وسياسيا, علي الصعيد الداخلي و الدولي.. قالت عنه صحيفة' لوفيجارو':' لو كان مونتي فرنسيا', و وصفته الفاينانشيال تايمز ب' القائد الأهم في أوروبا'. فمثل عام2012 شهادة الميلاد الجديدة لرجل الاقتصاد المخضرم و رئيس الوزراء المستقيل ماريو مونتي.. أو' الأستاذ كما دأبت وسائل الاعلام علي تسميته. تمكن مونتي من كسب احترام الرأي العام المحلي و الدولي كتكنوقراط محايد, يملك مشرط الجراح لإخراج البلاد من أخطر أزمة اقتصادية تواجهها.. وعلي صفيح سياسي ملتهب, استطاع وضع مرسوم انقاذ للتغلب علي أزمة الديون السيادية التي سجلت2 تريليون يورو. وكان لبرنامجه الاصلاحي الفضل في استعادة ثقة الأسواق العالمية بالاقتصاد الايطالي, لينخفض فارق الفوائد علي السندات الايطالية' سبريد' أكثر من النصف تقريبا, وبحلول عيد الميلاد الأول لحكومته, كان مونتي قد وطد حزمة الاصلاحات الهيكلية التي أعدها, بتمرير التشريعات الخاصة بإصلاح قانون العمل, وتحرير الخدمات, و مكافحة الفساد, وخفض عدد الدوائر المحلية بالبلاد. لكن العام لم ينصرف دون أن يفاجئ' الأستاذ' الجميع بالنزول الي الساحة السياسية, معلنا عن ميلاد تكتل سياسي وسطي جديد, سيكون زعيمه في الانتخابات العامة المرتقبة في24-25 فبراير المقبل. و اختار أن يكون دخوله للميدان الجديد تحت شعار' اصلاح الحياة السياسية', فأكد أنه لا يسعي للمنصب و أن برنامجه لا يندرج تحت التقسيم السياسي التقليدي' يسار يمين- وسط' معتبرا ان هذا العهد قد ولي. و أعلن أن أجندته تهدف الي توحيد الاصلاحيين من كافة الاتجاهات في مسعي للحفاظ علي البلاد دون الانجراف الي مسارات مجهولة أو الارتداد للوراء. و اعتبر أن الركيزة الأساسية للحكومة المقبلة هي التغيير. ويستند برنامج مونتي علي تحديث سوق العمل وتحفيز النمو من خلال تحرير الخدمات من سيطرة فئة صغيرة علي سوقها. خفض الضرائب بمقدار1% علي الفئات الأقل دخلا تدريجيا. ولعل الظروف المحيطة بالمشهد السياسي كانت تدفعه لا محالة الي هذا القرار, وإلا كان بمثابة الأب الذي هجر وليده الصغير. فكل التيارات السياسية المتنافسة عجزت عن تقديم بديل حقيقي لمدرسة مونتي. حتي انه قبل اعلان مونتي عن رغبته, لم يخفي بيير لويجي بيرساني زعيم تكتل اليسار المنافس في الانتخابات المقبلة حقيقة أن حكومة مونتي وضعت الأساس الذي تسير عليه الحكومة المقبلة, مشددا علي عدم العودة عن البرنامج الاصلاحي الذي وضعه مونتي. وشهد العام المنصرم عدة تحولات علي الساحة السياسية, فتصاعدت ظواهر معاداة المؤسسات السياسية, و ازدادت جرائم العنف السياسي, فضلا عن النزعة الي رفض اليورو و مغادرة الاتحاد الأوروبي. في هذه الاثناء انحدر حزب شعب الحرية بقيادة سيلفيو بيرلسكوني من صدارة الساحة السياسية كأكبر قوي يمينية في البلاد, الي الهاوية, ليصل حجم تأييده الشعبي الي نحو15%. وهو ما يمكن فهمه في ضوء الفضائح التي تلاحق بيرلسكوني, وتفكك حزبه مع عجزه عن تقديم كوادر حقيقية. و القاء الرأي العام باللوم عليه لما وصلت البلاد اليه من وضع اقتصادي. ولم يبق فوق الأطلال سوي اليساريين الذين نجحوا في كسب ثقة الرأي العام من خلال اقامة أول انتخابات أولية من نوعها لاختيار مرشحيهم في الانتخابات المقبلة. فضلا عن اللعب علي مشاعر المتضررين من الأزمة المالية بالتعهد بتبني حزمة سياسات اضافية لمراعاة العدالة الاجتماعية و حماية الفئات الأضعف. علي هذه الخلفية طفت طبقة من السياسيين المنادية بولاية مونتي لفترة جديدة, داعية اياه أن يكون علي رأس قائمتها الانتخابية..إلا أن الهامش ما بين استغلال الظرف و الخوف علي الصالح العام لا يزال محل اختبار في ضوء التالي: ان الائتلاف الذي أعلن مساندته لمونتي ينبني علي مجموعة واسعة من القوي الصغيرة تضم سياسيين وغير سياسيين وناشطين كاثوليك. لا يحمل اسم موحد مميز و ليست له بنية محددة. ويشارك الائتلاف في الانتخابات من خلال ثلاث قوائم لمجلس النواب و قائمة واحدة مشتركة لمجلس الشيوخ. وربما يعكس موقف الأحزاب المشاركة في الائتلاف برفضها الدخول علي قائمة واحدة, شكوكا حول ترتيبات ما بعد الفوز. حتي أن بعض المراقبين أثاروا تساؤلات عما اذا كان مونتي سيتولي قيادة الحكومة مرة أخري, أم قد تكتفي الأحزاب الرافعة شعار' أجندة مونتي' بعرض حقيبة المالية عليه! ولا يمكن اغفال أن بيير فريدناندو كاسيني زعيم حزب الوسط المسيحي, و جيانفرانكو فيني زعيم حزب المستقبل و الحرية اللذين يشاركان بقائمتين منفصلتين تحت اسم مونتي بمجلس النواب- كانا حلفاء الأمس لبيرلسكوني ثم انقلبا عليه. أما القائمة الثالثة فليست أفضل حالا. فقد خصصت هذه القائمة للقوي المدنية, التي تتصدرها حركة مستقبل ايطاليا بزعامة لوكا كورديرو دي مونتيزيمولو رئيس شركة فيراري الشهيرة للسيارات, و الذي تدور شبهات حول وقائع استغلاله للنفوذ.. فهو يشغل عدة مناصب هامة بشركات تأمين و شركات مالكة للصحف, فضلا عن كونه نائب رئيس مجلس ادارة بنك يونيكريدت الذي تمتلك فيه جهات عربية حصة كبيرة, وهو ما يثير قلقا خاصا في ايطاليا. وإذا كانت الأيام وحدها ستكشف عما اذا كان مونتي قد ابتلع طعما أم لا.. فلعل تعليقات بيرلسكوني البائس قد اصابت جزءا من الحقيقة عندما وصف مونتي ب' الاستبن' و ائتلافه ب' جيش برانكاليوني الخارق' في اشارة الي عصابة من المحتالين و اللصوص بالفيلم الايطالي الكوميدي الشهير الذي أنتج في الستينيات من القرن الماضي و يحمل الاسم نفسه