يبدو انتشار الباعة الجائلين في طول مصر وعرضها له علاقة بالأمراض الاجتماعية المتفشية, ومشكلة لها صلة بالأوضاع الاقتصادية المتردية, لكن أيضا يمكن اعتباره انعكاسا لتصرفات الطبقة السياسية, التي يسعي أصحابها لأن تكون لهم مكانة متقدمة, في مشهد عام لا يختلف كثيرا عن عمليات البيع أعلي وأسفل الأرصفة. الكل فيها يحاول عرض بضاعته خارج البازار لجذب أكبر عدد من الزبائن والمريدين. هؤلاء الباعة ليسوا مهمشين, كما يتصور البعض, بل دخلوا المسرح السياسي من أوسع أبوابه خلال الأيام الماضية, لأن المشاهدة أو المشاركة مفتوحة لكل من يجيد قراءة ما حوله من تطورات. وقد نجحوا في الحصول علي موافقة رسمية بانشاء نقابة البائعين الجائلين المستقلة. ونظموا مظاهرات في ست محافظات في آن واحد وحاصروا دواوينها الرسمية للمطالبة بإلغاء القانون105 لسنة2012, الذي يشدد العقوبات عليهم. وحصلوا علي تأييد عدد من منظمات حقوق الانسان. ولوحوا بتأسيس حزب يضم حوالي خمسة ملايين بائع متجول, عند كل منهم ثلاثة أفراد علي الأقل, بمعني أنه سيكون أكبر حزب, لأن عدد المنتمين والمحسوبين عليه سيصل إلي خمسة عشر مليون شخص. وبالتالي يمكن أن يحصل علي أغلبية برلمانية مريحة, أو يكون هؤلاء ورقة مهمة في أيدي قوي وتحالفات حزبية لحصد الأصوات الانتخابية, بعد أن تحولوا لجماعات منظمة, تتعامل مع المشهد السياسي بصورة واقعية وتفهم مفرداته بطريقة تحقق الأهداف الاقتصادية وتبعد شبح المطاردات الأمنية. قبح الصورة التي يظهر عليها الباعة الجائلون في كثير من الشوارع, لا يعني صب النقمة واللعنات علي أصحابها, بل يتطلب الوقوف عند الظاهرة البغيضة وتحليلها, أملا في البحث عن وسيلة لعلاجها. ولن أدخل في تفسيرات اجتماعية أو تبريرات اقتصادية, فما يهمني هو المعاني والدلالات السياسية, التي تصلح لأن تكون نافذة لمعرفة جوانب في مشكلة, قد تكون أبعادها الخطيرة خافية علي كثيرين. ولا ننسي أن بوعزيزي الذي أشعل النار في جسده وفجر شرارة الثورة في تونس كان أحد الباعة الجائلين. وتحولت مأساته بسرعة من مشكلة إنسانية تحظي بتعاطف قطاعات محلية ضيقة, إلي قضية جوهرية غيرت وجه الدولة التونسية. الأمر الذي يلم بتفاصيله باعة مصر الجائلون, الذين ابتكروا أدوات جديدة للدفاع عن أنفسهم. ولم يكتفوا بتضخيم وإشهار سلاح البلطجة والفتونة لاستمرار مكاسبهم, لكن استثمروا لخبطة أجهزة الدولة من أجل لفت الأنظار نحو مشكلتهم وجرها إلي خانة القضايا الشائكة, التي إذا واجهتها بقسوة أمنية يمكن أن تتحول إلي شظايا تسبب الكثير من المتاعب السياسية. إدراك الباعة الجائلين أنهم قوة معنوية وكتلة تصويتية لا يستهان بها, جعلهم طعما مغريا لأحزاب تسعي إلي تعزيز أماكنها في السلطة, وأخري تحاول الوصول إليها وركوب سفينتها. وهو ما يبعد عنهم الخوف من التنكيل والتشريد حاليا. وقد فطنوا إلي هذه الوصفة فتمادوا في ممارساتهم العشوائية في الشارع واحتلت بضاعتهم معظم الطرقات والأرصفة. وعرفوا أن أدوات البطش تمسك بها أجهزة أياديها لا تزال مرتعشة, وعاجزة عن محاسبة المخالفين وتطبيق القوانين, أو حتي تنظيم إشارات المرور. وكلها ملامح منحتهم أوراق ضغط لإلغاء قانون رأوا فيه امتهانا لكرامتهم. ولعل التناقض بين تحدي أجهزة الدولة والمطالبة سلميا بتغيير أحد القوانين, يكشف لأي مدي تفهم هؤلاء قواعد لعبة الأرصفة وشروطها السياسية. فالسيولة التي نعيشها مرحلة مؤقتة مرتبطة بظروف الادارة السيئة للمشكلات الراهنة, بينما القوانين حالة دائمة, ربما تكون نائمة مؤقتا, لكن استيقاظها سوف يأتي حتما. والعقاب سيكون مصير المخطئين حتي لو تأجل إلي حين. بالتالي فزيادة جرعات الحشد في زمن الفوضي والارتباك يمكن أن يرفع ما يتصور هؤلاء أنه ظلم أو جوا علي حقوقهم. الصمت أو قل الغياب الذي تبدو عليه أجهزة الدولة, يغري فئة من الباعة الجائلين علي الاستفادة منه, وينتقلونا من أداة لتحسين الاقتصاد وتخفيف الأعباء, إلي وقود لثورة جديدة, لأنهم أصبحوا مؤثرين في سوق مملوءة باللاعبين السياسيين. المزيد من مقالات محمد ابوالفضل