صلاح سالم : سؤال مؤرق قد يستغرق عمرا للإجابة عليه, وقد نموت دون إجابته, فالكتابة فعل وجودي بالمعني الكامل, يسبق حضوره لدي المهجوسين به كل محاولات إدراكه وتعقله. قديما قدم النبيل سقراط حياته كلها علي مذبح الحقيقة, ولم تكن تلك الحقيقة سوي ما قاله فيها, وتصوره عنها, وما كان يمكن أن يكتبه باسمها. أما الرائع أفلاطون فأكد علي أن الحقيقة ممكنة, رغم استعصاء المثال علي التحقق, ولذا فهي تستحق البحث, ومن ثم الكتابة. وأما العظيم أرسطو فبحث عن السعادة, وفي الطريق إليها, بحث عن كل شيء: في الوجود والمعرفة والأخلاق, حتي وضع بصمته علي كل صنوف المعرفة, في جل مراحل التاريخ. في عصر قريب, القرن الثامن عشر, كتب إيمانويل كانط, إمام العقل الحديث, بحثا لا عن الحقيقة في ذاتها كما فعل سابقوه, ولكن عن تلك الآداة التي تسعي لبلوغها, أي العقل الإنساني. وهكذا تمكن من تقديم هذا العقل إلي نفسه كاشفا عن قدراته وعن حدوده, فأهدي الإنسانية موقفا فكريا يتسم بالإعتدال والتواضع لا نزال بحاجة دائمة إليه. في القرن العشرين كتب الوجوديون بحثا عن معني لحياة الإنسان, عن فهم لمأزقه علي الأرض المفترض أنه خليفة عليها, فإذا بها تمسك بسوطها كي تجلده وهو جالس علي عرشه. تفاوت أولئك بين مؤمن وملحد, ولكن أحدهم لم يقدم حلا لمعضلة الوجود, أو أزمة الإنسان, إلا الإيمان, سواء صراحة كما لدي كيركيجارد, وباول تيليش وجاك ماريتان, أو ضمنا كما لدي سارتر ومارسيل: الأولون عندما عبروا عن ابتهاجهم بيقين الروح الذي وصلوا إليه, والآخرون حينما عبروا عن فشلهم في الوصول إلي اليقين وعجزهم عن احتمال الشك. من جانبي لا أتصور العالم من دون كتابة, حيث لا تأمل في شيء ولا يقين بشئ. يبدو العالم قبييحا, كئيبا, مخيفا, رغم الكتابة, أي كتابة. ولكنه يقينا سيكون أكثر إظلاما من دون فلاسفة المعرفة, وأقل يقينا من دون فلاسفة الوجود, وأكثر قسوة من دون مفكري الأخلاق, ولذا كانت الكتابة عندي محاولة للخروج من فلك القبح: الظلام والشك والقسوة, تلك الغياهب التي ما إن توجد حتي تفتك بإنسانية الإنسان. الكتابة إذن فعل وجود وتحرر, وبحث دائب عن الجمال, لا ذلك الجمال الظاهر في شواطئ العالم وأنهاره وأشجاره بل الباطن في البشر أنفسهم, النابع من دفئهم وحميميتهم.. من سعة عقولهم ورحابه قلوبهم وصحو ضمائرهم, ودقة أذواقهم, فالعالم لن يكون جميلا فعلا إلا إذا كان الإنسان إنسانا حقا, ذلك الكائن الذي منحه الله الضمير والروح والعقل والذوق ليدرك بها حلاوة الإيمان ومعني الحب وقيمة المعرفة ومغزي الفن, فيتسامي بها علي باقي الموجودات. هذا الإنسان المتسامي, القادر علي جعل العالم أجمل هو غاية أحرفي وكلماتي.. وكل ما كتبته وسوف أكتبه هنا, عزيزي القارئ, لن يخرج أبدا علي تلك الغاية التي لا تدرك.. أنسنة الإنسان.