ينظر فريق من أصحاب النظرة الدينية الضيقة إلي القرآن الكريم علي أنه كتاب علم, فلم يغادر كبيرة ولا صغيرة من حقائق العلم المعاصر إلا وقد تضمنها! فإذا سألتهم: ففيم تخلفنا وتقدم الآخرون؟ لم هذا الباب المخلع أيها االنجارب؟ فلا يعيرون جوابا. وهؤلاء أنفسهم هم الذين ينظرون إلي الكتب المقدسة علي أنها التجسيد الوحيد للقيم الاخلاقية والجمالية, وكأن أصحاب الديانات الأخري لا خلاق لهم, أو كأنهم محرومون دوننا من نعمة الإحساس بالجمال! وقد اخترت زاوية( فلسفة الدين) كما عرضها أحد أعلام فلاسفة الدين المعاصرين, هو ابول تيليش, ففلسفة الدين كما هو معلوم فرع جديد من فروع الفلسفة, ليس له ضريب في تراثنا الفكري. وابول تيليشب واحد من أهم الفلاسفة الذين تركت كتاباتهم بصمات واضحة علي الفكر الديني المعاصر, وعلي الأخص فيما يتعلق بالتجربة الدينية. ويعد أهم المتحدثين باسم الإيمان الميتافيزيقي, علي نحو ما عبر ابول إدواردزب. تدور فلسفة زتيليشس الدينية حول مفهوم الاهتمام أو( الهم الأقصي), ويقصد بهذا المفهوم أن الدين يهتم بما هو, بل وما ينبغي أن يكون,( اهتمامنا الأقصي), وهذا يعني أن الإيمان هو الحالة التي يتم إدراكها عن طريق هذا النوع من( الاهتمام) وحده, والله هو الاسم الذي نطلقه علي مضمون هذا الاهتمام. ونحن هنا بإزاء ضرب من الفهم( الوجودي) للدين, ذلك أن مصطلح( الهم) أو( الاهتمام) يرتبط بظهور الفلسفة الوجودية مع غيره من المصطلحات التي تدور حول الحقل الدلالي نفسه, مثل مصطلح( القلق الوجودي) الذي لا يفارق الموجود البشري في غمرة التجربة الحياتية, علي ما نجد في فلسفة زهيدجرس ومن بعده زسارترس. يعرض زتيليشس آراءه في مواضع متفرقة من كتاباته الغزيرة حول قضايا فلسفة الدين ومشكلات الإيمان, ولعل أهمها كتابه( لاهوت الحضارة) الذي عرف فيه الدين بأنه مجلي الروح الإنسانية, ويعني بذلك أننا ننظر إلي الروح الإنسانية من زاوية خاصة; فإذا بها تبدو أمامنا روحا دينية. فما هي هذه الزاوية؟ إنها الزاوية التي من خلالها نصل إلي عمق حياة الإنسان الروحانية, فالتجربة الدينية هي( بعد العمق) في حياة الإنسان ذات الأبعاد المتنوعة والمستويات المتراوحة. ويشرح زتيليشس ما يقصده ببعد العمق, فيرفض بداية أن يربط الدين بأية وظيفة محددة; فمع النظرة العجلي, يمكن أن نجد الدين مثلا متطابقا مع الأخلاق, طالما كان يساعد علي خلق المواطن الصالح; ولكنه في اللحظة التي يدعي فيها الاستقلال بنفسه, لن يستطيع إلي هذا سبيلا! فإما أن يتم إسكاته, أو يتم الاستغناء عنه كأي شئ زائد عن الحاجة! ولم لا؟ أليست الأخلاق قادرة علي أن تتحقق بغير معونة الدين؟ وهكذا ينظر الدين حواليه باحثا عن وظيفة جديدة له في حياة الإنسان الروحانية, وربما تجذبه الوظيفة المعرفية, فيروج الاعتقاد بأن الدين بديل عن العلم, وأن الكتب المقدسة ليست سوي مظان تحتوي من حقائق العلوم ما يفوق سائر المعارف العلمية الإنسانية في فروع العلم كافة, من علوم طبيعية كالفلك والكيمياء والجيولوجيا وغيرها, ومن علوم إنسانية كالسياسة والاقتصاد والاجتماع وسواها! وها نحن نري كيف يروج بعض الدعاة والكتاب الإسلاميين لهذه الفكرة ليل نهار; فيزعمون أن القرآن الكريم كتاب جامع لسائر ما نعرفه وما لا نعرفه من النظريات العلمية في الميادين كافة, وما من حقيقة علمية كشفها العلماء أو سيكشفونها,إلا وهي موجودة فيه! والحق أن الدين يمكن أن يكون طريقة في المعرفة, ولكنها طريقة خاصة لا شأن لها بالمعرفة العلمية; لأنها تستند إلي الخيال أو الحدس الصوفي. ولم يعد الإنسان المعاصر يستمد معارفه العلمية من الدين, بل من العلوم المتخصصة, لا سيما بعد أن اشتد أزر المعرفة النظرية بمناهجها ومعاملها وتطورها الكمي والكيفي, فأصبحت تنطلق من فرضية أساسية, هي أن العلم لا دين له; فالدين لا يملك شيئا يفيد المعرفة العلمية من أي نوع! ينظر الدين حواليه مرة أخري, ليبحث عن وظيفة روحانية جديدة, بعيدا عن الأخلاق والعلم, وقد يجد ضالته في الوظيفة الجمالية. ولم لا؟ فوهج الإبداع الفني له قداسته, وحماسة الفنانين العاطفية قديما وحديثا فيها ما يكفي للاستجابة والقبول; غير أن الدين لا يلبث أن يجد نفسه مطالبا بأن يسلم بأن الفن هو الدين! وهذا ما يجعله مهددا بالخطر نفسه: أن يذوب في قيمة الجمال, كما كاد يذوب من قبل في قيمة الخير التي زاحمته فيها الأخلاق, وقيمة الحقيقة التي زاحمه فيها العلم! وهكذا يجد الدين نفسه في النهاية مضطرا إلي أن يترك لكل علم مجاله الخاص, لئلا يذوب في أي فرع من المعارف الإنسانية. ومن هنا أصبحت التجربة الدينية عند اتيليشب هي تجربة( الهم الأقصي); وكأن لكل علم إنساني همه النسبي أو مجاله المحدود الذي ينبغي ألا ينازعه إياه الدين, فالدين يتجاوز هذه الهموم الجزئية إلي ما يمكن أن نسميه( هم الهموم)! وهكذا تتجلي النزعة الميتافيزيقية التي ينطلق منها زتيليشس فيتميز من خلالها عن اللاهوت الصوفي, علي الرغم من اعترافه بأنه يتعاطف مع هذا اللاهوت. ووجه التميز يبدو هنا في أن زتيليشس يفصل بين مجالات القيم, ويجعل الدين هو التجربة الروحية الأعمق والأشمل التي تنظم هذه القيم جميعا دون أن تذوب في واحدة منها. إن التجربة الدينية تأخذنا إلي العمق وتجلو عن أرواحنا ما ران عليها من صدأ, وتنفض ما تراكم من غبار الحياة اليومية, إنها هي التي تمنحنا خبرة المقدس وخبرة مالا يمكن أن يمس, وتجعلنا نعيش رعدة الإلهام, وتصحبنا إلي المعني النهائي, وتقف بنا علي نبع الشجاعة القصوي, إلي آخر ما توحي به تجربة( الجلال) الذي نسميه: الدين. وعند هذه النقطة يكون زتيليشس قد أفصح بوضوح عن نظرته الميتافيزيقية الروحية التي تذكرنا بآراء زرودلف أوتوس خاصة في ربط التجربة الدينية بفكرة المقدس, وفي أننا لن نستطيع بواسطة العقل ولا بواسطة الإحساس أن نعيش هذه التجربة, فليس أمامنا إذا أردنا أن نصل إلي الله, إلا أن نتخذ إليه سبيلا غير مباشر, ألا وهو وسبيل اللغة الرمزية. علي أن العيب الأساسي في ميتافيزيقا زتيليشس الدينية, هو تلك التأكيدات الجازمة في عبارات مسكوكة لا تخلو من بلاغة وإن كانت تخلو علي رأي زبول إدواردزس من أي صلة حقيقية بالتجربة الواقعية الحية, خاصة حين يصوغ زتيليشس آراءه في عبارات غامضة فضفاضة مثل تعبير( الهم الأقصي), الذي لا يمكن أن نعرف ما إذا كان يقصد به حالة, أو موقفا ما! أم أنه قصد الإشارة إلي موضوع هذا الموقف؟ أم قصد الأمرين جميعا! أم أنه لم يقصد هذا ولا ذاك! ولعل زتيليشس نفسه قد أحس بما في تعبيره من غموض وتشويش, مما دفعه إلي معاودة طرح هذا المفهوم وشرحه في كتاب( دينامية الإيمان), فوحد بين الهم الأقصي وموضوعه, أي بين فعل الإيمان والموضوع الذي ينصب عليه الإيمان. غير أن ما يهمنا هنا هو الفصل التام الذي وجد زتيليشس نفسه مضطرا إليه ليحافظ علي الإيمان, ما بين الحقيقة الدينية الميتافيزيقية من جهة, وغيرها من حقائق إنسانية في العلم والأخلاق والفن. المزيد من مقالات حسن طلب