عبر فضائها خرجت صرخات هادرة تطالب بإسقاط النظام, ومنها انطلقت الشرارة الأولي لثورات الربيع العربي, وراح المواطنون البسطاء ينسجون أحلاما حول بلدهم الجديد عمادها الحرية والديمقراطية. ينعمون فيها بالرخاء الذي لطالما حرمتهم الأنظمة السابقة منه, غير أن المتابع للشأن التونسي يري أن الأحداث التي عاشتها تونس طوال عام سقطت آخر أوراقها, سارت في عكس هذا الاتجاه, فما تلا من سقوط النظام لم يكن في مستوي آمالهم وطموحاتهم, واستيقظ رجل الشارع البسيط علي كابوس اقتصادي فظيع وبطالة ترتفع نسبتها وغلاء في الأسعار ينهشه وانفلات أمني يهدده, ناهيك عن فوضي للحرية يمارسها اللاعبون الأساسيون علي الساحة, برغم نظام الحكم التوافقي(الترويكا) وما ظهر من ميل الأطراف الأساسية في الآونة الأخيرة من النزوع للهدوء ربما لإعطاء الفرصة لالتقاط الأنفاس والنقاش. وبرغم أن نظام الحكم في تونس الذي يبدو توافقيا مثاليا, إلا أنه لم يكن ليحل المشكلات العويصة الموجودة علي المشهد السياسي, وفشل في احتواء هموم المواطن البسيط, وظهر التوتر في ذروته أثناء الاحتفال بالذكري الثانية علي إندلاع الثورة في مدينة سيدي بوزيد مسقط رأس ملهم الثورة محمد البوعزيزي الشاب الذي أقدم علي حرق نفسه بعد أن صفعته شرطية, حيث تظاهر المئات رافعين الخبز في إشارة إلي إستمرار تردي أوضاعهم المعيشية والتجاهل الحكومي لهم, وكانت الذروة حين طالب الرئيس المنصف المرزوقي في كلمته بالمزيد من الصبر لمواجهة مشكلات الوطن حينها لم يفهم الغاضبون كيف يطلب منهم قادة الوطن ذلك وهم من أفقر المناطق التونسية, وبعد أن ضاق صبر المتظاهرين صرخوا ارحل مطالبين المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفي بن جعفر بمغادرة المكان وقذفوا المنصة بالحجارة. ويري المراقبون أن تلك الحادثة وقبلها كان إلغاء إضراب اتحاد الشغل(العمال) في اللحظات الأخيرة من دون التوصل لاتفاق حاسم, دقت ناقوس الخطر في البلاد وأنه ينبغي علي ثلاثي الحكم( الرئاسة ممثلة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء حمادي الجبالي ممثل حزب النهضة بمرجعيته الإسلامية ورئاسة المجلس التأسيسي ممثل حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات) مراجعة طريقتهم في الحكم وتشكيل حكومة كفاءات إنتماؤها الأساسي للوطن تعتمد علي الخبرة وليس الولاء للأحزاب. وإذا حاولنا تحليل أسباب تراجع الثورة في تونس نجد أولا أن هناك تراجعا كبيرا في مجال حقوق الإنسان, خاصة مع ظهور حركةالروابط التي توازي اللجان الشعبية تلعب دور شرطي النهضة نراها تارة تفكك الاعتصامات وأخري تفض المظاهرات مستخدمة في بعض الأحيان ما وصفه نشطاء بالقوة المفرطة وهو ما ظهر في مدينة سليانة حيث أفضت القوة المفرطة إلي إصابة300 شخص. أيضا هناك مخاوف ليست بالهينة تخص خسارة المرأة لما حققته علي مدي عشرات السنوات الماضية. ثانيا: تراجع كبير علي الصعيد الإقتصادي نسبة البطالة بين الشباب, وعدم تغيير حال البلاد للأحسن يتزامن مع خطاب حكومي عن متربصين يعرقلون أي تقدم قد تحرزه. ثم أن هناك شعورا عاما لدي الشارع بأن الثورة قد الإستيلاء عليها من قبل فصيل واحد يزعم أنه الوحيد الذي كافح وحارب النظام السابق, وبالتالي فإن هناك حالة من الإستقطاب السياسي يمارسها أطراف الصراع كل يحاول توسيع قاعدته الشعبية, الأمر الذي يبعد الثورة عن أهدافها. مشكلة جديدة قد تمتد تأثيراتها خلال العام المقبل هي مشروع الدستور, فقد أظهرت المسودة التي تناقش حاليا في إطار حوار وطني خلافات عميقة أبرزها طبيعة النظام الذي سيتم اعتماده في البلاد, ومدي صلاحيات الرئيس ونفوذه, ففي وقت تطالب حركة النهضة بأن يكون نظام الحكم برلمانيا محضا حيث تصبح جميع الصلاحيات في أيدي رئيس المجلس التأسيسي( البرلمان) وبذلك يتحول منصب الرئيس لمنصب شرفي, تري المعارضة أن النظام الرئاسي المعدل هو السبيل الأنسب. وبرغم الصعوبات التي تواجه الثورة التونسية والتشدد الكبير في صفوف السلفيين, بالإضافة للتشدد ممن يسمونهم فلول النظام السابق, وإلقائها بظلال قاتمة علي مستقبلها في العام المقبل, إلا أننا يجب أن نقر بأنها الأنجح بين مثيلاتها في دول الربيع العربي, فهي لا تعاني مثلا من حالة الاستقطاب السياسي, كما أن حزب النهضة وهو أكبر الأحزاب الإسلامية معتدل نسبيا, ويمثل ارتفاع نسبة المتعلمين ملاذا أخيرا للدفاع عن الثورة.ويبقي أمام الترويكا الحاكمة استغلال عدة مسائل وتحويلها لصالحها للدفع بعجلة البلاد الإقتصادية, ومنها اختلاف الشارع مع النخبة ففي وقت يري بسطاء الشعب أن الثورة قامت لتحارب فساد النظام السابق وتنتصر للفقراء, تنادي النخبة بأن الثورة قامت لتنادي بالديمقراطية والحرية وهو مالا يهم قطاعا كبيرا من الشعب, حتي يشعر المواطنون بتغيير إيجابي يمس حياتهم بشكل مباشر, وإستغلاله قبل الانتخابات التشريعية في30 يونيو العام المقبل كموعد أقصي لتنظيمها, علي أن تكون الإنتخابات الرئاسية في14 من يوليو كما اقترح رئيس الحكومة التونسية المؤقتة.