أختلف مع أستاذنا الإقتصادي الكبير الدكتور حازم الببلاوي حول تصريحاته الاخيرة بأنه لا يوجد شئ إسمه إفلاس الدول, حيث أن التاريخ الإقتصادي البعيد والقريب يشير إلي تعرض دول كثيرة لظاهرة الإفلاس أدت إلي تدخل قوي أجنبية في مقدرات الدولة لعل في تارخنا الحديث نموذج واضح في عهد الخديوي إسماعيل والذي أدي لحكم الأجانب الدائنين للبلاد بل وتشكيل الحكومات وكلنا نذكر حكومة نوبار باشا. ولكني أتفق معه في أن إفلاس الدول المادي يختلف في مفهومه عن إفلاس التاجر, ولكن كما يرتب إفلاس التجار نتائجا قانونية علي الأرض تصل لحد التصفية, فإن إفلاس الدول يؤدي أيضا لنتائج قانونية خطيرة. وإفلاس الدول ينتج عن فشل الدولة في إدارة مواردها ويؤدي إلي تراكم ديونها السيادية المتمثلة في سندات دولية طرحتها في السوق العالمية بالنقد الاجنبي, أو قروض حصلت عليها الدولة من دول أخري أو من مؤسسات دولية. وتختلف الدول عن الأفراد في معالجة الخلل في ديونها الخارجية أما باتخاذ تدابير ذاتية لزيادة مواردها من النقد الأجنبي, أو اللجوء لنادي باريس وصندوق النقد الدولي. ونادي باريس مؤسسة غير رسمية تمثل تجمعا للدول المانحة أو الدائنة, وأنشئ عام1956 نتيجة المحادثات التي تمت في باريس بين حكومة الأرجنين ودائنيها, ويتولي النادي مهمة إعادة هيكلة الديون السيادية للدول, أو تخفيف أعباء بعض الديون, مثلما حدث مع مصر في بداية التسعينيات من تخفيض نصف الدين الخارجي والذي مكنها من إتمام برنامجها للإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد بنجاح, أو يمكن للنادي إلغاء الديون السيادية مثلما حدث من إلغاء لديون العراق عام.2004 وعادة لا يمكن للدول الذهاب لنادي باريس دون توصية من صندوق النقد الدولي. وتسعي الدول للحفاظ علي تصنيفها الإئتماني عند مستويات إيجابية حتي تتجنب عواقب ذلك والمتمثلة في فقدان المستثمرين الأجانب للثقة في الدولة, وبالتالي تفشل في جذب مشترين لسنداتها في السوق العالمية, وأيضا فقدان ثقة المستثمرين بالداخل سواء أجانب أو محليين, وحدوث حالة من الذعر تؤدي لخروج رؤوس أموال للخارج. وتلجأ الدول لصندوق النقد الدولي للمساعدة في حالة العجز المؤقت نتيجة لظروف قهرية كالحروب أو إنخفاض أسعار السلع والخدمات التي تصدرها, أو تعرضها لأوبئة وظواهر مناخية ضارة, او كوارث خطيرة كالزلازل والبراكين والفيضانات, أو الثورات. وتبرم الدولة في هذه الحالة إتفاق مساندة وتسهيلات بالنقد الاجنبي علي شرائح دون فرض إجراءات تصحيح هيكلي عليها, بل أن الدولة هي التي تحدد برنامجها وتعرضه علي الصندوق للحصول علي مساندنه, وهي حالة مصر في مفاوضاتها الحالية مع الصندوق. والحالة الثانية أن تصاب الدولة بخلل هيكلي, والصندوق يشترط في هذه الحالة برنامج إصلاح هيكلي( روشتة) للإصلاح المالي مثلما حدث مع مصر في برنامجها الإصلاحي في بداية التسعينيات, وبمقتضاه تمكنت من الذهاب لنادي باريس. وهذا يذكرنا بحالة الأرجنتين عام2001 عندما أوشكت علي الإفلاس وقفزت ديونها الخارجية إلي240 مليار دولار ولجأت للصندوق الذي وافق علي إقراضها20 مليار دولار, وربط المساندة بإجراءات تقشفية, وإضطرت الحكومة عند رفض الصندوق منحها شريحة1.2 مليار دولار إلي تجميد أرصدة المواطنين بالبنوك مما أدي لثورة شعبية هائلة خرج فيها الشعب الأرجنتيني إلي الشوارع وأغلقوا فروع البنوك واستولي علي ما بها وسقط العديد منهم قتلي وجرحي, وتدخلت الشرطة التي فشلت في السيطرة علي الأمر مما أدي إلي هروب الرئيس الأرجنيني فبرناندو دي لاروا بعد تقديم إستقالته. نأتي إلي مصر.. حتي الأن مصر في وضع مالي جيد حيث لا يوجد يوم واحد تأخير في سداد شرائح ديونها الخارجية التي توازي1.5 مليار دولار تدفعها علي شريحتين قبل موعدها حيث يحرص الدكتور فاروق العقدة علي ذلك, ثانيا دين مصر الخارجي في الحدود الأمنة وخدمة الدين الخارجي لا تذكر, ثالثا الإحتياطي من النقد الأجنبي لايزال في حدود أمنة ويصل إلي15 مليار دولار, رابعا, موارد مصر من النقد الاجنبي من مصادر متنوعة من السياحة والصادرات والعاملين بالخارج وقناة السويس والبترول, خامسا ودائع المواطنين بالنقد الأجنبي تصل إلي30 مليار دولار بالبنوك المصرية والتي توظفها في الخارج, سادسا إقتصاد مصر متنوع من زراعة إلي صناعة إلي تعدين إلي خدمات وكل هذا مصدر دخل يكفي ويفيض. إذن ما هي المشكلة؟ مشكلة مصر سياسية في المقام الأول, فهناك تيار سياسي إسلامي يقود البلاد, وهناك معارضة مدنية ليبرالية تري أنه تم إقصائها, وان التيار الإسلامي يرغب في الإنفراد بالسلطة. الإقتصاد المصري قبل الإعلان الدستوري كان في طريقه للتحسن والإستقرار, وتراجع التصنيف الإئتماني السيادي لمصر بسبب القلق وعدم التوافق السياسي. والحل يكمن في يد الرئيس, فكما فعل أوباما مؤخرا بالتشاور مع كافة القوي الوطنية بالولايات المتحدةالأمريكية, يجب علينا أن نفعل ذات الشئ. الرئيس هو ربان السفينة, وبالتأكيد التيار الإسلامي لا يرغب في الفشل, فلا مفر من التوافق, والتنازل لا يمس الكبرياء والكرامة, فالسياسة مصالح, وإدارة شئون الدولة تحتاج إلي الذكاء قبل الكبرياء. الخطوة الأولي من الرئيس ونحن كلنا معه.. ولا نرغب في أن يتندر رؤساء دول دول أخري علينا لعل أخرهم الرئيس الباكستاني أصف علي زرداري الذي أكد لشعبه ان حزب الشعب الباكستاني لن يسمح بتطبيق النموذج المصري في باكستان, وأن الفترة الإنتقالية ستتم إدارتها بالمشاورة مع المعارضة, وأن حزب الشعب الباكستاني الحاكم يؤمن بالمصالحة, وسيستمر بها, متعهدا باختيار رئيس وزراء بالتوافق مع المعارضة. نعود للحالة المصرية, وكما قال مسئول يوناني بأن المصالح الوطنية أهم من الكرامة, فإننا نقول أن الفرصة لاتزال سانحة للتوافق, خاصة بعد إقرار الدستور. نرغب في الوصول لإنتخابات برلمانية في توافق عام, ونرغب في أن نلتفت بقوة للإقتصاد, فنحن شركاء متضامنون في هذا الوطن. المزيد من مقالات نجلاء ذكري