فرضت مسألة الحوار نفسها علي المشهد السياسي المصري خلال الفترة الأخيرة , خاصة في ضوء التطورات المتسارعة التي أدت لحدوث انقسام واضح داخل المجتمع المصري بين تيار مدني ذي مرجعية إسلامية ينادي بأن تحكم البلاد من خلال الشريعة كجزء من المشروع الإسلامي. وتيار مدني ذو مرجعية ليبرالية حديثة, يرفض أن تتحول مصر لدولة دينية أقرب لنموذج باكستان, أو أفغانستان, أو السودان, ويتبني مشروعا ليبراليا مدنيا تتحول مصر بمقتضاه إلي دولة مدنية حديثة ترتكز علي توازن المؤسسات ومشروعية أدوارها في إدارة الحكم, وتهيئة البيئة السياسية المصرية لتقديم نموذج موضوعي متكامل للديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة في كل المجالات, وبما يجعل مصر تنافس بقوة علي الريادة الإقليمية والدولية, وتيار ثالث يشعر بالحيرة إزاء ما يحدث, خاصة في ظل دعوة التيارين الأولين لمليونيات وسط أجواء مشحونة للغاية وصلت لحد الدعوة لشن عصيان مدني يصيب الدولة بالشلل التام, ويمكن أن يكون سلميا في حالة استجابة النظام الحاكم لمطالب الشارع, أو غير سلمي بالاستمرار في التظاهرات. الواقع أن هناك إشكالية رئيسية تواجه الدولة المصرية في مرحلة ما بعد ثورة25 يناير, ويتعلق تمكين الدولة المصرية من تجاوز مشكلاتها الأمنية والاقتصادية ومواجهة أزماتها الراهنة من ناحية, وتهيئة النخبة والمجتمع للتعامل مع متطلبات عملية الإصلاح التي يفرضها التطور الطبيعي للأمور من ناحية أخري. وثمة عدة ملاحظات أولية يتعين أخذها في الاعتبار عند طرح قضية إصلاح الدولة المصرية: أولا: لقد أصبحت عملية إصلاح الدولة ضرورة حتمية لأن البديل لذلك هو استمرار المشكلات الحادة والمتزامنة التي يعانيها المجتمع المصري, مما سيبقي الدولة المصرية فريسة للصراعات الداخلية بين الدعوة للتوافق بين كافة القوي السياسية والوطنية أو ترسيخ الانقسام بين تيارات إسلامية وليبرالية تعمل علي إدخال مصر في حالة استقطاب واسعة, متزامنة مع انتشار لأعمال العنف, فضلا عن خضوعها لمزيد من الاختراق في أمنها القومي من الغرب والشرق والجنوب, مما يهدد بالدخول في حالة من التهميش في ظل التحولات العالمية الراهنة. ومن ثم, فإن التوافق الوطني بين كافة القوي علي إصلاح الدولة المصرية وما يترتب عليه من إصلاحات أخري تعمل علي تأمين الجبهة الداخلية ضد محاولات الاختراق من الخارج أو الصدامات السياسية والاجتماعية في الداخل, وبما يمثل خيارا لا بديل له لتجنب هذا المصير المأساوي. ثانيا: ضرورة أن تكون عملية الإصلاح شاملة وتراكمية, وإن كان هذا لا يعني تحقيقها دفعة واحدة في ضوء صعوبة ذلك من الناحية العملية, خاصة مع اختلاف ظروف وقدرات كل دولة. ولكن من المهم أن تبدأ عملية الإصلاح في المجالات والقطاعات الحيوية التي تلقي بتأثيراتها في مجالات وقطاعات أخري. ولعل في سرعة الانتهاء من بناء المؤسسات بشكل كامل والانتهاء من عملية الاستفتاء علي الدستور بشكل توافقي وإعادة انتخاب برلمان حقيقي يمثل كافة طوائف الشعب, إنما يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح لإعادة كل سلطة إلي ممارسة عملها بشكل صحيح وباختصاصات كاملة. ثالثا: من غير المتوقع أن تتم عملية الإصلاح من دون إثارة لبعض المشكلات والصراعات الداخلية, فهناك قوي وجماعات مستفيدة من الأوضاع الراهنة التي تمر بها مصر, وبالتالي فمن المتوقع أن تقاوم عملية الإصلاح أو علي الأقل تعمل علي تخريبها أو تهميش آثارها, وهذا أمر يتعين أخذه في الاعتبار من جانب كافة القوي السياسية والوطنية والتحسب لنتائجه وآثاره علي المديين المتوسط والطويل. رابعا: لابد من تأكيد ضرورة أن تعكس عملية الإصلاح السياسي التي تشهدها البلاد مزيدا من التوافق الوطني علي أهمية تمكين مختلف القوي والتكوينات الاجتماعية من التعبير عن مصالحها وتوصيل مطالبها من خلال قنوات مؤسسية شرعية, مع توفير ضمانات تمثيلها في هياكل الدولة ومؤسساتها بصورة عادلة ومتوازنة, دون إقصاء لتيار معين, إضافة إلي إفساح المجال أمام نمو تنظيمات المجتمع المدني وتطورها وتحقيق استقلاليتها عن الدولة. فجوهر الإصلاح السياسي هو تأسيس عقد اجتماعي جديد بين الدولة ومواطنيها, يجعل من المواطنة بمعناها السياسي والقانوني, محور الرابطة المعنوية بين الحاكم والمحكوم, ويستند إلي مبادئ وأسس احترام حقوق الإنسان, وإقرار التعددية السياسية والفكرية. خامسا: يشكل المدخل الدستوري القانوني عنصرا أساسيا في عملية إصلاح الدولة المصرية, وهو يعتبر وثيق الارتباط بعملية الإصلاح السياسي. فالدستور والقانون وجهان لعملة واحدة, وهما المرجعية لمختلف العمليات والتفاعلات السياسية وغير السياسية. وهو ما يفرض ضرورة أن يتسم القرار السياسي بعدم وجود أي شبهة تناقض أو تعارض مع الدستور أو القانون حتي لا تفرغ المبادئ الدستورية من مضامينها الحقيقية ويحفظ للقضاء استقلاله وحياديته بما يمكنه من أداء دوره المنوط به في إقرار العدل وفق مبدأ سيادة القانون كهدف أساسي تصبو إليه المجتمعات الديمقراطية. ويبقي الحوار هو المدخل الرئيسي لأي عملية إصلاح سياسي في أي مجتمع, وذلك إعلاء لمفهوم التعددية وليس الأحادية.