وسط أجواء صاخبة ومنافسة ساخنة وحسابات معقدة تجري اليوم واحدة من أهم الإنتخابات في تاريخ بريطانيا لاختيار رئيس وزراء وأعضاء جدد بمجلس العموم. وقد كانت الإنتخابات حتي الأسابيع القليلة الماضية شبه محسومة في صالح ديفيد كاميرون رئيس حزب المحافظين باعتباره رئيس الوزراء المقبل وأن تسلمه القيادة مجرد وقت. ولم يكن لدي أحد شك من أن السياسة البريطانية ستطوي صفحة مهمة من تاريخها بإنهاء حكم حزب العمال الجديد الذي استمر لمدة13 سنة بقيادة توني بلير ثم رئيس الوزراء الحالي جوردون براون واختفاء الحزب عن الساحة السياسية إلي غير رجعة أوعلي الأقل لفترة قد تطول مدتها. ولكن خلال الأسابيع الماضية أوضحت استطلاعات الرأي أن الناخب البريطاني لم يقتنع تماما بأن كاميرون ورفاقه مستعدون للقيادة أوقادرين علي محوصورة حزبهم السلبية التي تكونت لدي البريطانيين خلال حكم مارجريت ثاتشر في الثمانينيات بمحاباتها للأغنياء. ومع ظهور نجم نيك كليج(43 عاما) رئيس الحزب الليبرالي الديمقراطي كمرشح قوي خلال المناظرات التليفزيونية التي أجراها مع جوردون براون(59 عاما) وديفيد كاميرون(44 عاما) خلال الأسبوعين الماضيين انقلبت الحسابات رأسا علي عقب حيث نجح كليج في طرح حزبه كبديل لحزبين قد شاخا ولم يعدا يتمتعان بالشعبية وسط الشارع البريطاني. وأصبح الناخب البريطاني غير مضطر للاختيار بين المرشح الأسوأ والأقل سوءا. وتأرجحت استطلاعات الرأي خلال الفترة الماضية ولكن أغلبها لا يزال يضع حزب المحافظين في المقدمة ولكن بنسبة لا تضمن له الأغلبية المطلقة في مجلس العموم ثم يليه الحزب الليبرالي في المرتبة الثانية مقابل تقهقر حزب العمال إلي المركز الثالث. وفي حالة تحقق هذه النتائج فإن الأمر قد يصل إلي برمان' معلق' لايحظي خلاله أي حزب بالأغلبية المطلقة التي تسمح له بتمرير القوانين والإصلاحات التي يعد بها كل حزب. ولن تستطيع الأحزاب في هذه الحالة تشكيل الحكومة منفردة وستسعي إلي إجراء تحالفات قد تؤدي إلي الإبقاء علي جوردون براون رئيسا للحكومة حتي وإن حل ثالثا في عدد الأصوات العامة! فالطبيعة الخاصة للنظام السياسي والإنتخابي البريطاني تزيد الحسابات تعقيدا. فالناخب لا يختار رئيس الوزراء ولكنه يختار أعضاء في مجلس العموم( البرلمان) ممثلين علي أساس جغرافي. والحزب الذي يحصل علي أغلبية المقاعد في مجلس العموم البريطاني هوالذي يقوم بتشكيل الحكومة. وبالتالي فمن الممكن أن يحصل حزب علي عدد أكبر من الأصوات العامة ولكن علي عدد أقل من المقاعد في مجلس العموم أوالعكس وهوما حدث مع حزب العمال في الانتخابات الأخيرة عام2005 حينما حقق الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة رغم حصوله علي نسبة35% فقط من إجمالي الأصوات وكذلك للحزب الليبرالي الديمقراطي الذي حصل علي10% فقط من المقاعد في مجلس العموم رغم فوزه بنسبة20% من الأصوات. وبالتالي فإننا أمام عدد من الاحتمالات. الاحتمال الأول أن يتحالف حزب المحافظين مع الحزب الليبرالي الديمقراطي لتشكيل الحكومة الجديدة ولكنه تحالف لا ينتظر أن يستمر طويلا نظرا لهوة الخلاف الكبيرة بين الحزبين في العديد من القضايا. فهما يتفقان علي ضرورة رحيل حزب العمال من الحكم بكل ما تسببه من مشاكل سياسية في مقدمتها مبررات حرب العراق والأداء العسكري في أفغانستان والفضائح المالية لأعضاء البرلمان, بالإضافة إلي أن بريطانيا كانت من أكثر المتضررين من الأزمة المالية العالمية مما نسف المشروع الاقتصادي لحزب العمال ومصدر قوته. ولكن يختلف الحزبان بشدة في التعامل المقبل مع الأزمة الاقتصادية, فبينما سيبدأ حزب المحافظين بإجراءات سريعة لتقليل دور الدولة وخفض العجز في الموازنة العامة بما في ذلك تخفيض الأجور الحكومية ورفع سن المعاش وزيادة ضرائب المبيعات, فإن الحزب الليبرالي يري ضرورة التمهل هذا العام لحين التأكد من عودة معدلات النموالمرتفعة والمستقرة للاقتصاد. كما يختلف الحزبان حول الملف الاوروبي, فبينما يري كاميرون ضرورة استعادة بعض السلطات الممنوحة للإتحاد الأوروبي يري كليج أن مستقبل بريطانيا هوفي مزيد من الاندماج مع أوروبا بل يطالب أيضا بالانضمام إلي عملة اليورو. أما الاحتمال الثاني فهو تحالف حزب العمال الجديد مع الحزب الليبرالي الديمقراطي والذي كان يطلق عليه' حزب آكلي الرقائق ولابسي الصنادل' في إشارة إلي سطحيته وعدم نضجه. ويتيح هذا الاحتمال إمكانية بقاء براون كرئيس للوزراء وهوالذي وصفه أحد قيادات حزبه بأنه' وجه إذاعي' في اعتراف بأنه لا يتمتع بالجاذبية السياسية الكافية أوالشعبية والقدرة علي الإقناع. وهذا التحالف غير مستبعد نتيجة أن الحزب الليبرالي الديمقراطي هو في الاساس إندماج لحزبين, أحدهما من اليسار والذي ينتمي إليه حزب العمال ويتشابه العديد من السياسات خاصة في الرؤية الاقتصادية لدور الدولة وضرورة أن يتحمل الأغنياء بشكل أكبر تكلفة الإجراءات المستقبلية لخفض عجز الموازنة. ولكن يعيب هذا التحالف أنه ستصبح المرة الأولي التي يحتل فيها حزب ما المرتبة الثالثة في عدد الأصوات ورغم ذلك يقوم بتشكيل الحكومة حتي لو اشترط كليج إيجاد بديل لبراون علي رأس الحكومة. وفي كلا الإحتمالين السابقين فإن الحزب الليبرالي سيكون له دور مؤثر وسيستطيع فرض شروطه علي الحكومة الجديدة وسوف ينتج عن ذلك إعادة رسم الخريطة السياسية في بريطانيا. أما الاحتمال الثالث فهو أن يتمكن حزب ديفيد كامرون من حسم الإنتخابات بالفوز بالأغلبية المطلقة. وقد نجح بالفعل خلال الأسبوع الماضي في استعادة كثير من شعبيته وتقدمه بعد أدائه القوي في المناظرة الثالثة والأخيرة. كما يعتمد في ذلك علي تخويف الناخب البريطاني من الإحتمال الثاني وهوعدم حدوث أي تغيير في حالة بقاء براون رئيسا للوزراء وعدم حصول حزب المحافظين علي الأغلبية اللازمة التي تمكنه من تطبيق الإصلاحات والتغيير. ويساند كاميرون كبار رجال الأعمال والمليارديرات وكذلك عدد كبير من وسائل الإعلام الرئيسية باعتباره رجل المرحلة المقبلة. فهل تنتهي اليوم مغامرة براون وكليج.. أم ينقسم الناخب البريطاني.. مما يؤجل الحسم وقد يعجل بانتخابات جديدة أخري خلال ال18 شهرا المقبلة.