تمر البلدان العربية التي شهدت اندلاع وانتصار ثورات الربيع العربي, وهي تحديدا, وبحسب الترتيب الزمني لهذه الثورات, تونس ومصر واليمن وليبيا, خلال الفترة الأخيرة بظاهرتين تسهمان في تشوش الصورة, سواء أمام المواطن العادي أو ما يسمي ب رجل الشارع في الداخل أو أمام أي مراقب خارجي, بشأن التطورات الجارية داخل كل منهما, وهما ليستا منفصلتين إحداهما عن الأخري. وأعني هنا بشكل خاص مسألة اختزال الأحداث والمواقف بشكل سطحي يخل بالمضمون والمعني من جهة, ومسألة الخلط, سواء المتعمد أو غير المقصود, لبعض المفاهيم من جهة أخري. وقد جاءت محاولات الاختزال تلك وكذلك عملية خلط المفاهيم عبر آليتين, تمثلتا في تصريحات وأحاديث لبعض السياسيين, وأيضا من خلال وسائل إعلام مسموعة أو مرئية أو مقروءة, وكل منهما يتسم بالخطورة والأهمية في الوقت نفسه نظرا للتأثير الكبير علي المواطنين العاديين. وحتي ننتقل من الحديث المجرد في إطلاقه إلي أمثلة محددة نستطيع جميعا أن نلمسها علي أرض الواقع, فالمثال الذي سوف أذكره بداية هنا عن مسألة الاختزال يتعلق بالحديث في بلدان الربيع العربي عن مواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين, وهو قول ينطلق إلي التعميم دون مراعاة مخاطر مثل هذا التعميم, فمن غير الواضح تحديدا مثلا في هذه الحالة من هو المقصود بالعلمانيين؟ وهل المعني المقصود هنا هو التعريف الحرفي الكلاسيكي الذي قرأناه في أدبيات السياسة الغربية التقليدية للعلمانية, وهو تعريف يكاد لا يكون موجودا إلا لدي قلة قليلة من شعوب هذه البلدان التي يشكل المسلمون الغالبية الكبري من سكانها, وإنما التعريف الموجود فعليا يتصل بمدنية الدولة ومرجعية السلطة والسيادة فيها, وهو بالمناسبة أمر تؤكد عليه أيضا الكثير من التيارات الإسلامية التي تعتبر أنها مع مدنية الدولة وتنكر وجود أي سلطة دينية في الإسلام وترفض إضفاء أي هالة من القداسة علي الحكام. كما أن القول إن الصراع السياسي في هذه البلدان هو صراع بين القوي الإسلامية وتلك العلمانية, مع التحفظ الذي ذكرناه فيما سبق بخصوص استخدام هذا التعبير, لا يتسم بالدقة المطلوبة ويخلط الأوراق, حيث إن هناك قوي تنتمي للتيار الواسع من القوي الإسلامية ولكنها لا تقف في المربع نفسه مع الاتجاه العام أو الغالب لهذه القوي وتتبني مواقف أقرب إلي التيارات العلمانية أو المدنية, مع التحفظ أيضا علي التعريف الدارج لهذين المفهومين كما ذكرنا فيما قبل, بينما هناك أيضا قوي علمانية أو مدنية ولكنها قد تقف إزاء بعض القضايا في موقع قريب من الغالبية من القوي والتيارات الإسلامية وبالتالي تبتعد عن المواقف التي تتبناها القوي العلمانية أو المدنية الأخري التي ربما تقترب معها في بعض المنطلقات الفكرية أو التوجهات السياسية العامة. أما الأمر الثاني الذي يعكس حالتي الاختزال وخلط المفاهيم اللتين نشير إليهما هنا فهو غير بعيد عن الأمر الأول, ألا وهو الإصرار علي الترديد بشكل متكرر نفس التعبير الخالي, مرة أخري, من الدقة الواجبة, ألا وهو أن الصراع السياسي الراهن في البلدان الأربعة التي انتصرت ثورات الربيع العربي بها هو صراع بين الإسلاميين والليبراليين, وهو تعبير يتم إطلاقه دون تقديم تعريف محدد لكل طرف ومكوناته, فلا يعرف المستمع أو القارئ أو المشاهد من هو المقصود تحديدا بكل تعبير, خاصة فيما يتعلق بتعريف تعبير الليبراليين. ولكن الخلل الأعم في هذه المقولة أنها تقصر المعادلة علي طرفين فقط في حين أننا نعلم جميعا انه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام1945 فإن هناك أربعة تيارات فكرية وسياسية أساسية شكلت مسار الأحداث في المنطقة العربية وتقاسمت التأثير علي مقدرات الأمور وعلي صياغة التوجهات المجتمعية لدي الشعوب العربية, وهي التيار الإسلامي والتيار اليساري والتيار الذي يعرف بالناصري في بعض البلدان العربية وبالقومي في بلدان عربية أخري وأخيرا وليس آخرا التيار الليبرالي في تلك المجتمعات. وأنه برغم تذبذب قوة كل من هذه التيارات علي مدي هذه العقود فإن كلا منها سيظل موجودا معنا في المجتمعات العربية, ربما لعقود أو حتي قرون قادمة, ولن يتعرض فجأة للتبخر أو الزوال وهو أمر أثبتت صحته بلا شك أحداث كثيرة دارت علي امتداد الأرض الغربية في العقود المنصرمة. كما أن هذا الطرح الثنائي القطبية في حد ذاته يفترض التناغم والانسجام الكامل ووحدة المواقف داخل كل معسكر, وهو أمر لا يتوافر عادة علي الصعيد العملي, ولا يعي هذا الطرح, أو لا يود أن يجعل الآخرين يفهمون, أن التعددية والتنوع لا يسريان فقط فيما بين هذه التيارات الأربعة التي ذكرناها في الفقرة السابقة, بل بداخل كل منها, وهو أمر طبيعي نظرا لتعدد التفسيرات والاجتهادات والمصالح التي يمثلها كل فصيل داخل التيار نفسه, وأن من شأن مثل هذا التنوع والتعدد في الحقيقة أن يعكس أحد طبائع الأشياء ويمثلا مصدر ثراء وليس مصدر تنازع أو فرقة يتعين التبرؤ منه أو عار ينبغي التخلص منه أو حتي عيبا يجب التغطية عليه. المزيد من مقالات د.وليد محمود عبد الناصر