أنا مواطن طماع. وأرجو أن يكون طمعي في محله...أطمع فيمن قالوا نعم أو قالوا لا أن يدركوا أن المشهد السياسي بأكمله مشهد تجريبي, وسيظل كذلك حتي بعد الانتهاء من الاستفتاء وإعلان نتائجه. وإذا كان بعض من قالوا نعم أبدوا السرور ورفعوا علامات النصر, وبعض من قالوا لا أحسوا بالقلق وأظهروا توجسا, فإن موقف الاثنين في تقديري يبقي كاذبا. ليس فقط لأن أمامنا يوما ثانيا للاستفتاء يمكن أن تتغير معه النتائج, وإنما لأن الموافقة علي مشروع الدستور أو رفضه لن تكون نهاية المطاف. فالمراحل الانتقالية لا تنتهي بمواعيد رسمية ولا تتوقف بوضع الدستور أو اختيار رئيس أو انتخاب برلمان. المراحل الانتقالية لا بد أن تعاش إلي آخرها. وآخرها في حالتنا لم يأت بعد طالما أن وعودا قطعت لم تتحقق, وطالما أن شركاء الثورة ما زالوا مختلفين, وطالما أن الزخم الشعبي يغذي نفسه بنفسه ولا تملك قيادة سياسية أو ميدانية إيقافه. كل شيء باختصار ما زال تجريبيا, قابلا للتغيير وليس نهائيا. الكل يتعلم في الكل. المعارضة والرئاسة...الإخوان وجبهة الإنقاذ...السلفيون والليبراليون. كلنا خرجنا من تجربة بشعة ولم يكن منتظرا من أحد أن يمارس الديمقراطية قبل أن يتعلمها. ونحن الآن نتعلمها. نمارس ونخطئ وندفع الثمن. وسنظل نفعل ذلك إلي أن تكتمل التجربة. البعض منا سيتعلم أسرع من الآخر, لكن الجميع مدعو لأن يحذر وهو يتعلم حتي لا ينزلق فيدفع الوطن لا قدر الله فاتورة تعليم الديمقراطية لأبنائه بثمن باهظ. وأحسب أن تجربة الاستفتاء التي ستكتمل بعد أيام ستكشف عن القيمة المبدئية لتلك الفاتورة. فقد جري الاستفتاء, وهو الأهم في تاريخ المصريين منذ أن بدأ الأخذ بنظام الاستفتاءات في1956, في أجواء من الاستقطاب والتنافر لم تشهدها أي تجربة تصويت شعبي في مصر من قبل. معسكر للمدنيين وآخر للإسلاميين. مليونيات تنادي بالتصويت بلا وأخري تحث علي التصويت بنعم...وقع شرخ فانقسم المصريون لو جاز التعبير إلي نعميين يؤيدون الدستور ولائيين يعارضونه. والفريقان معا, النعميون واللائيون, ازدادت حماستهم لما أحسا أن السباق قارب مع الاستفتاء علي الوصول إلي خط النهاية, ونسيا أن كل ما في مصر تجريبي. ونسيا أيضا لو تأملا المشهد بتمهل أن نعم لن تنقذ الوطن ولا لن تحميه, لأن الإصرار علي نعم أو التمسك بلا إنما تزيد الاستقطاب وتوسع الشق بين المصريين. ومع أني صوت بلا إلا أني فعلت ذلك بعد حيرة. وأعتقد أن من صوتوا بنعم صوت عدد كبير منهم كذلك بعد تردد. فليس كل من قال نعم قالها وهو مقتنع تماما عنها لأنه يعرف أن هناك عيوبا في الوثيقة التي خرج يستفتي عليها. وليس كل من قال لا قالها وهو راض تماما لأنه يعرف أن مصر لو بقيت بلا دستور فقد تدخل في دوامة ليس لها مخرج إلا بعد حين طويل. ولعل تلك الحيرة تفسر تقارب النسبة بين من قالوا نعم ومن قالوا لا. لقد أظهر الاستفتاء أن المصريين انقسموا بين من يقبل بالغطاء الدستوري المتاح ومن لا يقنع بأقل من الرضاء الدستوري الكامل. بين من يرضي بالوثيقة المعروضة ليستر بها الوطن عوراته المؤسسية حتي لو كانت ورقة توت, ومن يري أن ورق التوت لا يستر أبدا. وما بين أنصار نعم وأنصار لا أو الباحثين عن الغطاء والباحثين عن الرضاء جري الاستفتاء. ونتيجته بغض النظر عن الجانب الذي ستميل إليه لن تشير إلي أننا توصلنا إلي حل. لماذا؟ لأن نعم لا ترضي طالما بقي في الدستور عوار في مواده وفي المناخ الذي صنع فيه ونسبة التأييد التي أجازته. كما أن لا لن تكفي لأن تشكيل جمعية تأسيسية ثالثة لن يكون سهلا ولأن كل وليس بعض مواد الدستور سيعاد طرحها للنقاش من جديد. ما الحل إذن؟ الحل ألا نفرط لا في الغطاء المتاح برغم قصره ولا نرضي به كما هو لأنه لا يستر عوراتنا. الحل في كلمة رددناها دون أن نطبقها. الحل في التوافق. أن يوافق اللائيون علي أن مصر لن تتحمل تكوين جمعية تأسيسية ثالثة وأن الوثيقة الحالية بها مواد جيدة يمكن البناء عليها. وأن يوافق النعميون علي أن ما خرج الشعب يستفتي عليه ليس هو عين الكمال وأن ثمة مواد كتبت علي عجل لا بد من أن تراجع وتكتب من جديد دون تسويف أو إرجاء... لذلك يقع علي الجانبين معا أن يستوعبا أن نعم لا ترضي ولاس. اب زس بلغت نسبة واحدة منهما70% مثلا. لكن الفارق بينهما ليس ضخما كما أظهرت النتائج المبدئية لليوم الأول من الاستفتاء. ولا ينتظر بعد إعلان النتيجة النهائية أن ترتفع النسبة فجأة لصالح أي منهما علي حساب الآخر. إن مصر2012 لن يطمئن الشعب فيها ولا القوي السياسية لدستور لو أجيز مثلا بموافقة53% من الناخبين كما جري مع دستور أكتوبر1946 في فرنسا, والذي بدأ البعض في بلدنا يروج له وكأنه نموذج يجب أن نحتذي به. فذلك الدستور أجيز بنسبة ضئيلة ولهذا سقط بعد سنوات لتكتب فرنسا دستورا جديدا في1958 أجازه83% من الناخبين, ولهذا يعيش إلي اليوم. ونحن لسنا في حاجة فقط للتعلم من تجارب الآخرين وإنما في أمس الحاجة للتعلم من ظروفنا الخاصة التي باتت تحتم علي لجنة الخبراء المكلفة بتحديد المواد المختلف عليها واقتراح تعديلات عليها أن تعلن في نفس يوم إعلان نتيجة الاستفتاء لو جاءت النتيجة بنعم أنها أكملت مهمتها وأنها ستضع تلك المواد أمام المجلس التشريعي في تاريخ محدد لكي يعتمدها فتصبح جزءا لا يتجزأ من الدستور. وذلك إن تم فقد يرضي وقد يكفي. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة المزيد من مقالات أبراهيم عرفات