فن صناعة الأعداء وترك الاصدقاء, مقولة تصدق تماما علي إيران في ثوبها الجديد الساعي إلي فرض هيمنة مكشوفة علي جوارها الخليجي. فاكتشاف خلية تجسس في الكويت وجمع معلومات حساسة تتعلق بأمن البلاد, وتجنيد أفراد لكي يتعلقوا بفكر الحرس الثوري الايراني لهو أمر يدين إيران ويكشف نياتها غير الحميدة تجاه أقرب جيرانها. والظاهر أن هذه الخلية ليست الوحيدة في بلدان الخليج, فقبل أسابيع محدودة كشف النقاب عن وزير في البحرين تمت إقالته كان يلعب دور الجسر في عملية تبييض أموال من بيع المخدرات الافغانية لصالح الحرس الثوري الإيراني. وثمة تقارير تتحدث عن أمور مماثلة حدثت وتحدث في دبي, وتستغل حالة الانفتاح الاقتصادي والتجاري القصوي في الإمارة لتمرير الأموال غير النظيفة بين الخارج وبين مؤسسات إيرانية, وفي مقدمتها الحرس الثوري المسئول عن تصدير الفكر السياسي والمذهبي الايراني إلي الخارج, وتشكيل جماعات ومنظمات وتمويلها لتكون سندا لإيران وامتدادا لها في بقاع العالم المختلفة. الأمر المؤكد هنا أن عمليات الالتفاف المالية التي تقوم بها بعض المؤسسات الإيرانية هي إحدي وسائل الهروب من تداعيات العقوبات الامريكية والدولية, سواء التي طبقت من قبل, أو تلك التي تتحدث عنها إدارة الرئيس اوباما في الوقت الراهن وتتطلع إلي أن تكون عقوبات قاسية وذكية ومصممة, بحيث تشل فاعلية العديد من المؤسسات والمنظمات الإيرانية, وفي مقدمتها الحرس الثوري الايراني. وإذا كان من حق إيران أن تحافظ علي مصالحها من التعرض للضرر, وأن تخفف من تداعيات العقوبات علي اقتصادها وشعبها, فبالقطع ليس من حقها أن تحول أراضي جيرانها إلي أوكار للتجسس وغسل العملة والخروج علي القانون وتهديد أمن البلاد المجاورة. كما ليس من حقها أن تتعامل مع هؤلاء الجيران باعتبارهم أعداء مؤكدين أو محتملين, خاصة أن الدول العربية الخليجية وبرغم تحفظها علي بعض الممارسات الايرانية, فإنها حريصة علي التمسك بسياسات مبادئ حسن الجوار, وبعدم التدخل في الشئون الداخلية للغير, ولا أن تكون منصة للعدوان أو الاعتدء علي إيران. كما هي حريصة أيضا علي منع تعرض إيران لعمل عسكري ضد بعض منشآتها النووية, برغم الهواجس الكثيرة التي تثار بشأن البرنامج وطبيعته العسكرية المحتملة. وحين قامت الثورة الايرانية في عام1979 كان شعار تصدير الثورة إحدي دعائم سياساتها الخارجية تجاه العالم كله. آنذاك تصور الامام الخوميني أن بإمكانه أن يجعل إيران قائدة للمظلومين والمستهدفين, وأن هذه القيادة تتيح لإيران الوقوف أمام الشيطان الأكبر, وأمام كل المعارضين لثورتها. كان مفهوما أن تصدير الثورة بقدر ما هو تعبير عن استراتيجية هجومية بقدر ما هو تكتيك دفاعي يستهدف حماية الثورة من اعدائها في الداخل وفي الخارج. كان مفهوما أيضا أن اللجوء إلي هذه الاستراتيجيات الهجومية يمثل امتدادا لفكرة الثورة نفسها الساعية إلي تغيير البيئة المحيطة حتي تشكل حائط صد ضد محاولات النكوص علي الثورة في الداخل. وكان مفهوما ثالثا أن هذه الحالة ستكون مؤقتة حتي تستقر الأوضاع في الداخل ويشعر الحكام الجدد بالتمكن في الداخل وممارسة علاقات طبيعية في الخارج. كانت جدلية الثورة والدولة واحدة من الإشكاليات التي تحكمت في عمل الجمهورية الإسلامية في العقد الأول, والذي شهد بدوره حربا ضروسا مع العراق استمرت ثماني سنوات متصلة. وفي نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم, وحين بدا أن الجمهورية الاسلامية قد تحررت من عبء القيادة السياسية والايديولوجية لقائدها الإمام الخوميني في يونيو1989, وأن مؤسسات الدولة قد وصلت إلي درجة من النضج السياسي والسلوكي, وأن الحرب مع العراق قد وصلت إلي منتهاها, بدا أن تصدير الثورة كمفهوم وسياسة تستهدف التغيير الجذري للبيئة الجديدة لم يعد مناسبا للدولة الايرانية, ومن هنا باتت الأولوية هي التخلي تماما عن تصدير الثورة لصالح تطبيع العلاقات وتطبيق سياسات حسن الجوار. هذا ما شهدناه مثلا في عهد الرئيس هاشمي رافسنجاني مطلع التسعينيات من القرن الماضي, ثم تبعه في ذلك الرئيس الاصلاحي محمد خاتمي. بيد أن الأوضاع انقلبت رأسا علي عقب مع تولي الرئيس أحمدي نجاد الرئاسة قبل ست سنوات. لقد باتت الأولوية الإيرانية هي لترسيخ صورة الدولة الإقليمية القائد, والدولة التي تغير العالم بأسره وليس فقط الإقليم المحيط, والدولة التي تواجه القوة الأعظم بكل الأساليب الممكنة, والدولة التي لا تعيش إلا علي إثارة الأزمات والمشاركة فيها والامتداد في كل مكان. ويمكن للمرء أن يحصي عددا كبيرا من تصريحات الرئيس نجاد وبعض كبار المسئولين في حكومته والتي تعكس هذه المعاني مجتمعة. ومما قاله الرئيس نجاد, أن بلاده هي الاقوي علي وجه الارض, وأن جيشها هو الأول في العالم, وأن الأعداء لن ينالوا منها شيئا. وقد يتفهم المرء دوافع مثل هذه التصريحات الاستعلائية التي تتسم بالمبالغة لاعتبارات الاستهلاك المحلي وحشد الرأي العام الداخلي. ولكنه بالقطع لا يقبل الخضوع لها بدافع الخوف أو الانبهار أو الخداع, خاصة إذا حاول قائلها الإيحاء بأن قوة إيران بهذا الشكل هي لخدمة المسلمين في كل مكان. فلا دولة في التاريخ كله ضحت من أجل مصالح غيرها. ويقينا فإن إيران لن تفعل ذلك من أجل الغير, بل من أجل نفسها ومن أجل طموحاتها الذاتية. من هنا فإن المعلومات الأولية التي تكشفت بشأن خلية التجسس لصالح الحرس الثوري في الكويت تستدعي الكثير من القلق, وتستدعي توجيه رسالة إلي طهران تدعوها للكف عن هذه الأعمال المناقضة لأبسط قواعد حسن الجوار. وما أمكن تسريبه يعطينا مؤشرا علي أن الحرس الثوري يعمل علي تشكيل مجموعات من جنسيات مختلفة ترتبط بالفكر الايراني عامة وفكر الحرس الثوري خاصة, فهناك لبنانيان أحدهما يشرف علي عمل الخلية وتجنيد عناصر جديدة, والثاني يمولها ويشرف علي جمع الأموال من بعض التجار المحليين. وتبدو تصريحات المتحدث الرسمي باسم الحرس الثوري الذي حاول أن ينفي مسئولية منظمته عن هذه الخلية المكتشفة في الكويت, بيد أنه أشار إلي ما أعتبره عنصر جذب مهما يتمثل في زيادة شعبية حزب الله اللبناني وحركة حماس, وبما يدل علي أن هناك رؤية كلية تجمع هذه المنظمات مع الحرس الثوري, تجتمع كلها تحت مظلة شعار تصدير الثورة الذي ظن كثيرون انه كان مرحلة وانقضت, وإذا به أحد أسس الدولة الايرانية المتطلعة إلي الهيمنة وفرض معادلات أمنية تتيح لها مكانة القائد الاقليمي بلا منازع. إن هذا النفي لهو دليل اثبات وفي العمق علي أن إيران توظف هذه المنظمات في سياق إيديولوجيتها الخاصة في التغلغل والتمدد في المنطقة تحت تبريرات وشعارات مواجهة ومقاومة الصهيونية والامبريالية الأمريكية. بل الاكثر من ذلك توظف القضية الفلسطينية لإيجاد حالة توتر داخلي في المجتمعات الإسلامية والعربية. ولا يفيد هنا مثل تلك المقولات التي يدافع بها البعض عن المواقف الإيرانية. فهؤلاء الذين يرون أن وقوف إيران ضد المطامع الاسرائيلية والصهيونية يبرر لها التدخل والعبث في الأمن الداخلي للمجتمعات العربية, يقفون ضد أنفسهم بالدرجة الاولي, وضد بلدانهم. فقبول تدخل الغير في الشأن الوطني هو أمر مرفوض أيا كانت درجة نبل هذا الشعار. وكما نرفض التدخلات الامريكية بدعوي دفع الاصلاح الديمقراطي في بلداننا, فإننا نرفض بالدرجة ذاتها التدخلات الايرانية بدعوي مناصرة القضية الفلسطينية أو مواجهة الغطرسة الإسرائيلية. لقد كتب البعض من المرتبطين بطهران قلبا وقالبا, ينفون أن يكون الحرس الثوري الايراني قد شكل أية خلايا تجسس في الكويت أو في غيرها, واعتبر هؤلاء الأمر من قبيل الدعاية السوداء التي يروجها أناس وجهات مرتبطة بالصهيونية تمهد للعدوان الاسرائيلي والامريكي علي إيران. مثل هذه الكتابات الفقيرة في المعني والمضمون أصبحت كالاسطوانة المشروخة التي تدين صاحبها وتثبت تدني منطلقاته, وتؤكد أنه دخل مرحلة الفقر السياسي وضعف الحجة. وكيف لا تضعف حجة هؤلاء وهم أساسا يقولون شيئا باطلا وكاذبا جملة وتفصيلا. فهل يعني مثلا الوقوف مع إيران ضد التهديدات الأمريكية أن يقبل المرء اختراق بلده وأمنه, وأن يفتح ذراعيه لخلايا تجسس وجمع معلومات حساسة عسكرية وأمنية وتجنيد افراد من جنسيات مختلفة, وذلك حتي لا يصبح في عداد المتهمين بدعم الصهيونية. فكم حجم الخلل في هكذا منطق شكلاني ابتزازي. إن الرهان علي ابتزاز العرب والمسلمين بأن يقفوا علي الحياد في شأن يمس أمن بلدهم وأمنهم الذاتي لهو قمة الفقر السياسي, ونوع من الخداع المكشوف والمرفوض جملة وتفصيلا.