حينما يتأمل المرء المشهد الحالي في وطننا الغالي مصر تصيبه الدهشة والصدمة في آن واحد خاصة إذا ما قارنه بمشهد الوطن وناسه في الأيام الأولي لثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة. لقد كانت ترفرف علي الميدان الروح الثورية الطاهرة التي توحد ولاتفرق, التي تجمع ولاتخون, التي تحب ولاتكره. تلك كانت الروح السائدة بين مجموع المصريين الذين خرجوا وفي طليعتهم شباب مصر الأطهار في مشهد لن ينساه المصريون ولن يضيع من ذاكرة العالم المتحضر. ورغم أن الثورات عادة مايصاحبها انتشارا للفوضي وحوادث السرقة والنهب.. إلخ فإن مصر الثورة شهدت أقل نسبة من هذه المظاهر الفوضية في تاريخ الثورات في العالم. إذن ما الذي حدث وأدي إلي هذا الانقسام والصراعات الموجودة الآن بين المصريين؟!. الحقيقة أن كتابات كثيرة وتحليلات عديدة قد أكدت أن سبب ذلك بداية هو أن الاخوان المسلمين وهي الطليعة الأكثر خبرة وتنظيما بين فئات الثوار قد خرجت من ساحة الثورة إلي ساحة جني الثمار بسرعة البرق, إذ لم يضيعوا وقتا فتحالفوا مع المجلس العسكري الحاكم سواء بقصد أو بغير قصد ورسموا الخطط للاستيلاء علي السلطة وتحقق لهم ما أرادوا عبر خطوات مدروسة وتخطيط محكم أكسبهم إياها خبرة السنين والمعاناة التي عانوها من الظلم والاستبداد لسنوات طويلة. ولقد جاءت قرارات الرئيس مرسي الأخيرة لتتوج هذا الانقسام ولتؤكد للمعارضين له ولسياساته أنه وجماعته وحزبه قد اختاروا المواجهة بدلا من التوافق, واختاروا الحكم المنفرد بدلا من المشاركة!! وهكذا أصبح من الواضح أننا دخلنا طريق التصادم والتصعيد بدلا من الحوار والتهدئة مراعاة للمصلحة العليا للبلاد والاستقرار للوطن. وبدلا من أن تتوحد المظاهرات في الميادين مطالبة بالعمل الجاد للنهوض ومواجهة التحديات الصعبة التي نواجهها داخليا وخارجيا, تفرق المتظاهرون بين مؤيد للرئيس وإعلاناته الدستورية والقرارات المبنية عليه وبين معارض له ورافض للإعلان الدستوري ولسياسات الرئيس وقد بدأت نذر التصعيد والمواجهة بين الطرفين, كلاهما يريد فرض رؤيته علي أرض الواقع, فالمؤيدون يرون أن الرئيس قد اتخذ القرارات الصائبة التي ربما تعيد الاستقرار إلي البلاد وتستكمل مسيرة الثورة وتقضي علي جذور الفساد, والمعارضون يرون أنها انقلاب علي الثورة والديمقراطية وصنعت مستبدا جديدا يمسك في يده كل السلطات دون مراعاة لمصلحة الوطن فهل هذه المواجهة وهذا الصدام وهذا الانقسام في مصلحة الوطن ومواطنيه؟! سؤال لاشك أن الاجابة عنه بالنفي من الطرفين معا. فكيف الخروج من هذا المأزق إذن؟ الحق أن بداية الخروج من هذا المأزق بيد الرئيس محمد مرسي, فهو يمثل السلطة الوحيدة المنتخبة التي لايشكك أحد في شرعيتها حتي الآن ومن ثم فعليه يقع عبء تجاوزه واعادة الأمور إلي نصابها من جديد وعليه يقع عبء بذل الجهد للم الشمل من جديد. وفي اعتقادي أن لاشيء يعيد ذلك إلا الحوار مع كل الأطراف المعارضة لقراراته قبل أن تتحول إلي معارضة له شخصيا ولشرعية رئاسته للبلاد, ولكي يكون هذا الحوار مثمرا وفعالا فلابد أن يضع الطرفان في حسبانهما أنهما إنما يتحاوران بغرض تغليب المصلحة العامة للبلاد في هذه الظروف الصعبة الدقيقة التي تنذر بخطر شديد لم تتعرض له مصر من قبل حتي في أيام الثورة الأولي ووجود مبارك علي رأس السلطة. إن الخطر الذي تواجهه مصر الآن يلزم الجميع أن يتحلوا بأكبر قدر من أمانة تحمل المسئولية أمام الله والوطن وأن يبتعدوا كل البعد عن المصالح الشخصية والتصارع علي تحقيق منافع وقتية وانتصارات واهية, فعلي جماعة الإخوان المسلمين أن يعودوا جماعة وإخوانا ومسلمين يراعوا الله في كل مايقولون وفي كل ما يفعلون وأن يؤكدوا للجميع أنهم شركاء في الوطن وإخوة فيه. وهذا التأكيد لم يعد ممكنا بالأقوال المرسلة بل بالأفعال والإجراءات التي تؤكد خضوعهم للقانون والوفاء بالعهود التي قطعوها علي أنفسهم مع القوي الوطنية الأخري, وعلي الجماعات السياسية الأخري أن تراعي الله في كل ما يفعلون وكفاهم مغالاة في النقد والتجريح وكفاهم جريا وراء إثارة الناس فالوطن يكاد يحترق والناس ضاقت وزادت معاناتهم ولم يعودوا يحتملون أكثر من ذلك!!. وإذا ما صدقت النوايا وتوحدت الإرادات لتحقيق المصلحة الوطنية العليا لمصر ولشعبها فإن البداية تكون من البحث عما هو مشترك بين الجميع من الطرفين المتصارعين وما هو مشترك بالتأكيد أكبر بكثير مما يختلفون حوله, ومن ثم فالهدف لدي الجميع هو الخروج من هذا المأزق والتوجه نحو المستقبل الأفضل للوطن والنهوض به. وليتذكر الجميع تلك اللحظات الرائعة التي كانوا فيها كل في واحد لايفرق بينهم انتماء سياسي أو حزبي وليعودوا إلي نفس هذه الروح الوطنية التي جعلتهم جميعا ينصهرون في بوتقة واحدة مطالبين بالحرية والمساواة والعدالة للجميع والنهضة للوطن. إن علي الرئيس مرسي الآن أن يتحلي بأقصي درجات الشجاعة في هذه اللحظة التاريخية وبدلا من أن يتخذ طريق التعسف والإصرار علي قراراته يتخذ طريق الحوار مع كل الأطراف, وكما نجح من قبل في كسب ثقة وتعاطف الشعب بتنازله عن بعض القرارات السابقة يمكنه اليوم أن يزيد من هذه الثقة بالتراجع عن بعض قراراته الصعبة الأخيرة التي تكرس لهيمنة رئيس الدولة علي كل السلطات ولو كان ذلك لفترة محدودة ولو كنتم لن تستخدموها فيما يضر بالشعب وبمصالحه! نحن نعلم يا سيدي الرئيس أن نياتكم حسنة وإيجابية تجاه شعبك, لكن النيات يعلمها الله والناس لها الظاهر من الأمر, والظاهر من هذه القرارات لو أعدتم قراءتها من منظور الآخرين ستجدون أنها بالفعل تكرس لسلطة الفرد وتعيدنا حقا الي ماهو أسوأ مما قبل الثورة! ومن ثم فهمي تحتاج منكم قرارا شجاعا بإعادة النظرة فيها خاصة وأنت ممن يؤمنون حقا بأن الأمر شوري والشوري تقتضي مشاورة الآخرين وهاهم الآخرون قد أعلنوا رأيهم بالرفض! وبوصفكم الحكم بين الجميع ورئيسا للجميع فلتدع الجميع وخاصة من المعارضين إلي حوار من أجل إعلاء المصلحة العليا للبلاد في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ مصرنا الغالية. ولنعد كما كنا الكل في واحد عبر هذا الحوار وما سيترتب عليه من قرارات نافذة تعيد الشعب كله صفا واحدا, يتفرقون فقط لحظة الإدلاء بأصواتهم في صناديق الانتخابات وتعيدهم إلي الديمقراطية الحقة إلي التوحد والمشاركة والعمل علي صنع النهضة المنشودة للبلاد. حمي الله مصر وشعبها ورئيسها من كل سوء يراد بها وينتظره أعداؤها. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار